
السينما وسياسات الوصول
هناك إعادة تعريف للإشكاليات الأخلاقية والمهنية المتعلقة بسياسة الوصول، سواء على نطاق قناة أخبارية فضائية أو منصة إعلامية الكترونية أو مخرج سينمائي.

هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين حكاية ما انحكت وأوبن ديموكراسي، حول السينما السورية الصاعدة منذ عام ٢٠١١: السياسة، التحديات الانتاجية، الرقابات، الجمهور، والى اين قد تتجه الآن.
في المشهد الافتتاحي لفيلم أحمد غصين لعام ٢٠١٩ "جدار الصوت"، تمرّ زوجة البطل عبر مدرسة مؤقتة أثناء محاولتها العثور على زوجها الذي اختفى. وهي تشك أنه سافر جنوبًا، إلى قلب المعركة مع إسرائيل. إنه تموز ٢٠٠٦، في ذروة حرب حزب الله مع إسرائيل. فيالمدرسة، يقدم ساحر أخرق ألعاب الخفة أمام جمهور من العائلات النازحة، محاولاً إخفاء عدد من الأشياء: علم لبناني، حمامة بيضاء، وأخيراً بعض المعدات التقنية. ولكن بدلاً من إخفائها، يبدو أن الساحر يلفت الانتباه إلى هذه الأشياء، وإلى رعونته أيضاً.
يمكن لهذا المشهد أن يكون صورة مجازية عن السينما. إذ إن عملية صناعة الأفلام تشبه إلى حد كبير أداء خدعة سحرية. من المفترض أن تختفي المعدات التقنية وعناصر الإنتاج الأخرى حتى يصبح السرد مرئيًا. مثل أي خدعة سحرية، يمكن القيام بهذه العملية بشكل أخرق بدرجات متفاوتة. وعلى الرغم من كافة محاولات المخرج للسيطرة على العمل، قد تطغى العناصر التقنية للإنتاج في بعض الأحيان على السرد.
Help us uncover the truth about Covid-19
The Covid-19 public inquiry is a historic chance to find out what really happened.
جدل حول "جدار الصوت"
تم عرض فيلم "جدار الصوت" لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي في سبتمبر ٢٠١٩، وفاز بالعديد من الجوائز، بما في ذلك، وربما هو الأساس، جوائز الإنجازات التقنية. ولكن في مدينة غصين بيروت، حيث لم يعرض الفيلم للجمهور بعد، قوبل الفيلم بالكثير من الجدل عوضاً عن المديح.

انتشرت سريعاً شائعات في بيروت بأن مشاهد البلدة المدمرة في الفيلم في جنوب لبنان، حيث وقعت معظم حرب ٢٠٠٦ والقسم الأكبر من التصوير، لم يتم تصويرها في لبنان ولكن في مناطق في سوريا تقع تحت احتلال حزب الله. قامت "بدايات"، وهي مؤسسة غير ربحية مقرها بيروت، تنتج أفلام وثائقية إبداعية للمخرجين السوريين الشباب المنخرطين في الثورة،بنشر سلسلة من المقالات التي تطرح أسئلة استفزازية حول الفيلم: هل الإذن الذي تم منحه لغصين بالتصوير في مناطق سورية تقع تحت سيطرة حزب الله، وهي قوة محتلة في سوريا، هو شكل من أشكال التواطؤ من قبل المخرج؟ عبر تصويره الأنقاض في سوريا في عام ٢٠١٦ على أنها بفعل التدمير الإسرائيلي في العام ٢٠٠٦، هل تبنى غصين رواية حزب الله الإعلامية، التي تربط بعبثية حربه لدعم نظام الأسد بالكفاح ضد إسرائيل؟ وهل ساهم غصين في محو تاريخ الثورة السورية عبر استعماله دمار المدن التي أُفرغت قسراً من سكانها في سوريا كموقع تصوير أو "ديكور"؟
شكّلت المقالات انعكاساً لآراء النقّاد، التي تستبق الحجة القائلة بأن القيمة الجمالية للفيلم قد تكون مستقلة عن سياسات إنتاجه، أو تهمة ضرورة مشاهدة الفيلم قبل انتقاده.
جادلت مقالات "بدايات" بأنه من الممكن انتقاد الطريقة التي يتم بها إنتاج فيلم من دون رؤيته، معتبرة في الواقع أن العكس غير صحيح: لا يمكن فصل المزايا الجمالية للفيلم، والتي قد تكون جوهرية، عن سياسة إنتاجه.
لذا، وعلى الرغم من أنّ غصين أراد على الأرجح أن تتلاشى ظروف إنتاج الفيلم إلى الخلفية، فقد حدث العكس تماماً. اختفى المحتوى السردي للفيلم إلى حد كبير عن الأنظار في لبنان، بينما طغت الأسئلة حول سياسة الإنتاج.
بالنسبة إلى منتقدي الفيلم في بيروت، إن القضية الأخلاقية التي هي على المحك تعادل، على سبيل المثال، قرار مخرج سينمائي إسرائيلي بتصوير فيلم عن الهولوكوست في جنوب لبنان المحتل
ترتكز الفضيحة المحيطة بإنتاج الفيلم على مشهدين قصيرين، كلاهما يُظهر بلدة دمرتها الحرب، ويتحرك فيها بطل الرواية الرئيسي بعصبية، قبل الاحتلال الإسرائيلي وبعده. من المفترض أن تعرض هذه المشاهد جنوب لبنان، الذي دمرت إسرائيل أجزاء كبيرة منه في تموز (يوليو) ٢٠٠٦، ولكن أعيد بناؤها منذ ذلك الحين. وبعد عقد من الزمن، تم تصوير هذه المشاهد في الزبداني، وهي أول بلدة تم تحريرها من نظام الأسد من قبل الجيش السوري الحر في العام ٢٠١٢ خلال الثورة السورية، والتي سقطت مرة أخرى بأيدي النظام في العام ٢٠١٥ بعد حصار طويل فرضه حزب الله، وأدى إلى مقتل الكثيرين وبلغت ذروته في النزوح الجماعي للسكان.
بالنسبة إلى منتقدي الفيلم في بيروت، إن القضية الأخلاقية التي هي على المحك تعادل، على سبيل المثال، قرار مخرج سينمائي إسرائيلي بتصوير فيلم عن الهولوكوست في جنوب لبنان المحتل.
جدار الوصول
تعتبر الظروف التي يتم فيها إنتاج الصور والوصول إليها مسألة بالغة الأهمية منذ بداية الثورة السورية في العام ٢٠١١. فمنذ ذلك الحين، تعذّر وصول الصحفيين الأجانب إلى سوريا بشكل كبير. في البداية، منع نظام الأسد دخول المراسلين الأجانب. وبعد تحرير أجزاء من البلاد من النظام السوري، أدّت سلسلة عمليات بارزة من قتل وخطف وقطع الرؤوس إلى إجماع واسع على أن المناطق التي يسيطر عليها المتمردون تعتبر خطرة جدًا على الصحفيين ويصعب الوصول إليها.
منذ بداية الثورة، أخذ المواطنون السوريون على عاتقهم "إخبار العالم" بما يحدث. في البداية قاموا بتصوير لقطات مشوشة على هواتف ذكية رخيصة، لكنهم سرعان ما احترفوا، واشتروا معدات أفضل وتعلموا مهارات جديدة، وغالبًا ما أصبحوا متعاقدين مع مؤسسات إعلامية دولية كمراسلين ميدانيين (عادة بأجور منخفضة استغلالية). بمعنى أخر، تأثر اقتصاد إنتاج الصور بسياسة الوصول إلى سوريا منذ عام ٢٠١١.
لم تسلم عملية إنتاج الأفلام الوثائقية من سياسة الوصول. لنأخذ مثالاً آخر، يخص آخر فيلمين لفراس فياض، "آخر الرجال في حلب" لعام ٢٠١٧ (الذي تم ترشيحه لأفضل فيلم وثائقي في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام ٢٠١٧) و"الكهف" لعام ٢٠١٩ (والذي تم ترشيحه لجائزة أوسكار هذا العام)، لقد استخدم الفيلمان ذات طريقة الإنتاج التي تستخدمها أي محطة تلفزيونية فضائية.
نظرًا لوضع حلب ودوما تحت الحصار والقصف الجوي، فقد كان من الخطر الوصول إليهما (على الرغم من أن العديد من الصحفيين المحليين الشجعان كانوا ما يزالون يخاطرون بحياتهم في كلتا المنطقتين في ذلك الوقت). من جهته بقي المخرج فياض، خارج الحدود، في تركيا، وتعاقد من الخارج مع مكاتب وسائل الإعلام المحلية لتصوير معظم مواد الفيلمين.

لقد أجريت عدة مقابلات مع عدد من المشاركين في تصوير الفيلم، الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم. وقد وصفوا ظروف العمل بأجر ضئيل، دون أي تأمين على الرغم من ميزانيات الإنتاج الأوروبية الضخمة. أوضح بعض صانعي الأفلام المحليين أنهم تجنبوا تقديم شكاوى رسمية أو علنية بشأن أسلوب معاملتهم المجحف، وذلك لعدم رغبتهم في الانتقاص من القضايا الثورية والإنسانية التي أملوا بأن تعزّزها هذه الأفلام. حتى أولئك الذين أصيبوا وفقدوا أطرافهم بالحرب، ولم يكن قد نالوا بعد أي تعويض حين قابلتهم، أوضحوا بأنّه، وعلى الرغم من سوء معاملتهم الواضحة، إلا أنهم "أرادوا أن يعرف العالم" عن الثورة السورية، وواقع الحياة تحت حصار النظام، وشراسة القصف الجوي الروسي. لقد كانوا مدركين تمامًا كناشطين في مجال الإعلام وذوي خبرة طويلة، أنّه من المخزي التسبب بفضيحة إعلامية عبر نشر أخبار عن سوء معاملتهم ليصبحوا بذلك هم أنفسهم القصة، وليس قضاياهم السياسية.
في هذه الحالة، بدا أن الخدعة السحرية للمخرج تعمل ببراعة. فصانعي الأفلام الشباب في الداخل والذين تعاقد معهم المخرج، دفعهم التزامهم بكفاحهم السياسي من أجل "الحرية"و"الكرامة"، ووعيهم بالأفخاخ التي ينطوي عليها منطق الفضيحة الإعلامية، الى جعل واقع الإنتاج السينمائي، ينزوي دائماً إلى الخلف، ويختفي تماما.
الأسئلة الأخلاقية التي تنشأ لا تقتصر فقط على قضايا صعوبة الوصول. ففيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء" (٢٠١٨)، الذي تم ترشيحه أيضًا لأفضل فيلم وثائقي في حفل توزيع جوائز الأوسكار، يبدأ بعرض كيفية تمكّن المخرج من الوصول إلى عائلة من الإسلاميين المتشددين في إدلب، من مؤيدي جبهة النصرة. يصف ديركي في تعليق صوتي كيف أخبر العائلة أنه مراسل حرب متعاطف مع الإسلاميين. هذه القصة الملفقة هي الحيلة التي أسقطت حذر الأسرة، متيحة لديركي حرية الدخول إلى حياتهم المنزلية والحميمية. وعرض الفيلم وجهات نظرهم الصريحة، وغالبا المروعة، حول تعليم النساء والتفجيرات الانتحارية والغربيين والكفار وغيرها من المواضيع الاشكالية المرتبطة بالجهاد. ومع قليل من التحفيز، بدا أنهم يدينون أنفسهم وأيديولوجيتهم، على الأقل من منظور المشاهد الغربي الليبرالي، وهو أصلاً الجمهور الذي يتوّجه له ديركي بوضوح في الفيلم.
اندلعت الفضيحة قبل شهر من نشوب انتفاضة في لبنان كسّرت المحظورات التي حالت إلى حد كبير دون الانتقاد العلني لحزب الله
لكن في الواقع ليس هناك سياق دقيق لمثل هكذا وجهات نظر. فبعد عرض الفيلم، اشتكى نشطاء محليون من إدلب بشدة على وسائل التواصل الاجتماعي من اختفاء سياق الصراع ضد نظام الأسد والجماعات الإسلامية. تبدو الأسرة التي يصورها ديركي مصابة بالصدمة ومرتبكة، خاصة بعد أن فقد الأب ساقه بلغم أرضي. فبدوا كأنهم غير مهيئين لاتخاذ قرار واعي بشأن منح دركي حق الدخول إلى حياتهم ونوع الفيلم الذي ينتجه. أحد أبناء الجهاديين، وهو صبي صغير كان عمره أقل من ١٠ سنوات أثناء التصوير، اشتكى بمرارة كيف تمّ تصويره وتصوير والده الراحل بشكل خاطئ.
أثناء مشاهدتي للفيلم، شعرت بأن الرواية المثيرة والصور التي كانت أغلبها مذهلة تختفي تمامًا. والذي طغى بدلاً من ذلك هي القرارات الأخلاقية التي اتخذها المخرج أثناء الإنتاج:سياسة الوصول.
كل هذا الوصول
من نواح كثيرة، كانت القضايا المتعلقة بسياسات الوصول في أفلام ديركي وفياض أكثر إثارة للجدل من المشهدين القصيرين في فيلم غصين. فاستغلال السوريين ظهر بشكل أوضح في هذه الأفلام الوثائقية، تحديداً بسبب ارتباطها بالواقع. ومع ذلك، تحوّل فيلم غصين الروائي إلى فضيحة كاملة على صفحات بدايات.
فكما جادلت العديد من مقالات بدايات، وكما اكتشفتُ عندما قابلت غصين، كان ذلك متعلّق باللحظة السياسية الحالية بقدر ارتباطه بممارسات غصين. في سياق العلاقات المشحونة والمتغيرة بين لبنان وسوريا، لعب حزب الله دورًا رئيسيًا في قمع الثورة السورية. إلى جانب ذلك، اندلعت الفضيحة قبل شهر من نشوب انتفاضة في لبنان كسّرت المحظورات التي حالت إلى حد كبير دون الانتقاد العلني لحزب الله.
عندما جلست مع غصين لمناقشة الفيلم والجدل الدائر حول "جدار الصوت"، كان من المثير للدهشة سهولة الوصول إلى المدن التي يسيطر عليها حزب الله في سوريا بالنسبة لهذا المخرج اللبناني من الجنوب. تم تصوير غالبية الفيلم في لبنان في قرية عائلة غصين، القنطرة، بالقرب من مرجعيون حيث يهيمن حزب الله. وقد وصف كيف أنّ حتى التصوير داخل منزله تطلّب التقدم للحصول على إذن من حزب الله عدة مرات، وأحيانًا للقطة واحدة.أخبرني أنه في إحدى المراحل قرر تصوير لقطة واحدة لسيارة تسير في طريق متعرج يمكن رؤيته من نافذة مطبخ منزل العائلة. في منتصف الطريق، أوقفه مسؤول في حزب الله وأخبره أن تصريحه لا يشمل ذلك الوادي. وما كان على مدير الإنتاج إلا أن يتقدم من جديد بطلب إذن من حزب الله، وعندها فقط أمكنهم العودة إلى تصوير المشهد.
وفقًا لغصين، مدير الإنتاج هذا هو نفسه الذي اقترح تصوير مشاهد الدمار داخل سوريا، لمعرفته بسهولة الوصول إليها نسبيًا. بطبيعة الحال، كانت لدى مدير الإنتاج اتصالات بحزب الله، إذ أنّه عمل على الأفلام والمسلسلات التلفزيونية اللبنانية والسورية التي استمرت طوال فترة الثورة والحرب السورية، وتصفّحَ الحدود والأماكن التي كانت تخضع لسيطرة النظام حسب توسّعها أو تقلّصها. بالنسبة إلى هذه الإنتاجات السورية اللبنانية، ولمديري الإنتاج من مثل ذلك الذي يعمل معه غصين، "لم يكن هناك فرقًا بين العمل أو التصوير في لبنان أو سوريا". وعلى عكس الإنتاجات الثورية الذي تمت مناقشتها أعلاه، فإن التصوير في كلا البلدين يحتاج الى ذات إجراءات إذن الوصول إلى مواقع التصوير.

نظرًا لأن الحصول على إذن التصوير من السلطات في جنوب لبنان وسوريا كان متطابقاً من الناحية العملية، فقد بدى لغصين الاستمرار في التصوير عبر الحدود أمراً بديهياً، لا "قرارًا"فعلياً. لكن رغم تطابق إجراءات الحصول على إذن، ظلت سياسة الوصول في البلدين مختلفة بنحو ملحوظ. وقد أظهر فيلم غصين بشكل واضح التحول الجذري في التصورات عن حزب الله: من محرر جنوب لبنان في عام ٢٠٠٠ بعد أول انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من الأراضي العربية المحتلة منذ عام ١٩٨٢، إلى صاحب "نصر إلهي" مزعوم ضد الغزو الإسرائيلي في ٢٠٠٦، وفي النهاية إلى قوة احتلال تشن حرباً في الخارج نيابة عن القوى الأجنبية لإخماد ثورة شعبية. لقد قام حزب الله بالانتقال التدريجي والواضح من محرِرٍ إلى جانٍ، ومن ضحية نسبية إلى قاتل. وقد لامست سياسة الوصول هذا التحول: انزوى السرد الواضح والصريح عن حرب تموز (يوليو) ٢٠٠٦ ضد إسرائيل، لصالح تمحور الفيلم حول السؤال عن دور حزب الله في التدمير الوحشي للثورة السورية.
ينتمي غصين الى عائلة من الشيوعيين، ويدعي أنه لم يعتبر يوماً حزب الله محرراً، لا بل أنه يراه أيضاً كمحتل لجنوب لبنان. وقد أراد أن يوضح أنّه، سواء في لبنان أو سوريا، فإن مشاهد الدمار الشامل، هي ما تبدو عليه انتصارات حزب الله. ويشير العنوان بالانجليزي "كل هذا النصر" بسخرية إلى الثمن الباهظ لتلك الانتصارات. لكن المشكلة هي أن هذه النقطة ليست واضحة عند مشاهدة الفيلم. كما أن التساؤلات تثار من حول سبب اختيار غصين عنواناً مختلفاً للفيلم باللغة العربية، "جدار الصوت"، متهربا تماماً من التلميح الساخر إلى "النصر الإلهي" لحزب الله في العنوان الانكليزي. (وقد ادعى أن الترجمة الحرفية باللغة العربية "لم تصب المعنى").
صحيح أن مقاتلي حزب الله بالكاد يُصورون كأبطال في الفيلم: فهم غير مرئيين، ودائمًا خارج الصورة، لكن في المقابل لا يتم تصويرهم كمحتلين. إذا كان هناك أي شيء، فإن الفيلم نفسه يكشف عن موقف غامض، وهو ليس شيئًا سيئًا في حد ذاته، لكنه يدحض النقد المبطّن الذي زعم غصين أنه يوجّهه لدور حزب الله في سحق الثورة السورية. في الحقيقة، يبدو أنّ دور حزب الله في سوريا قد جاء كفكرة لاحقة، مثل قرار غصين بالتصوير هناك. وبمجرد اجتياز غصين حاجز المسار المبتذل والسهل المتمثل في منحه إذن التصوير في الزبداني، لم يعد بإمكانه غض النظر عن دور حزب الله في سحق الثورة السورية.
استسهال وأخلاقيات
يبدو لي أن هناك مشكلة أساسية في هذه الأفلام. في ظل الظروف التكنولوجية الجديدة، أصبح إنتاج الصور أسهل وأسرع وبشكل متزايد. فالتقنيات الجديدة تتيح لنا الوصول إلى الصور من جميع أنحاء العالم بسهولة أكبر. حتى لو لم يتمكن المخرج من السفر عبر الحدود، فإن الصور تشق طريقها إليه بثمن بخس وبدون مجهود. ولكن في المقابل، هناك إعادة تعريف للإشكاليات الأخلاقية والمهنية المتعلقة بسياسة الوصول، سواء على نطاق قناة أخبارية فضائية أو منصة إعلامية الكترونية أو مخرج سينمائي.
أسئلة ملحة
تتكاثر اليوم بشكل متزايد وملح، الأسئلة حول كيفية إنتاج الصور، وتأخذ بعدا أخلاقيا ملفتا.هناك تَوجّهان متعارضان مؤثران على الساحة: السهولة المتزايدة في إنتاج المادة والوصول إليها، وفي مواجهتها تطرح الأسئلة الصعبة من حول أخلاقيات الإنتاج، التوزيع وآلية الوصول. إزاء هذين التَوجّهين العالميين المتعارضين، تصدّر السوريون المواجهة مع معضلات أخلاقية ومهنية جديدة: على سبيل المثال، البيان الأخير الصادر عن أكثر من ثمانين مخرجًا سوريًا يدينون فيه التصوير في "البلدات والمدن السورية المدمرة والمهجّرة"باعتبارها مواقع حية للجريمة حيث ارتكبت حديثًا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ أو الحملة التي قامت بها مجموعة "أبو نضارة" السينمائية من أجل تكريس "الحق في صورة كريمة" في القانون الدولي. تجدر الإشارة إلى أنه كظاهرة تكنولوجية عالمية، فإن المنظار الأخلاقي لهذه المواقف، يدور في فضاء الحقوق الإنسانية العالمية، لا سيما في حالة "أبو نضارة".
قد يرغب صناع السينما في إخفاء ما يعتبرونه تقنيات الإنتاج، كما هي العادة عندما يتعلق الأمر بتأكيد سحر وانبهار الأعمال التجارية. ولكن إن لم يفكروا بجدية في الطرق التي ينتجون بها أفلامهم وبسياسات الوصول، فإن العكس يمكن أن يحدث وينقلب السحر على الساحر.
عندما يتعلق الأمر بظاهرة التكنولوجية العالمية الجديدة. كما هو الحال مع الكثير من المعضلات المتعلقة بتقنيات وسائل الإعلام الجديدة، سواء تنظيم صور العنف، أو حملات التضليل الروسية، أو إعادة توظيف المادة المصوّرة التي يسجّلها الناس كدليل على جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. فإن السوريون كانوا في طليعة من رفع لواء هذه القضايا، واقترح حلول مجتمعية وعالمية جذرية لها.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة