Home

صراع الثقافة والهويّات: اللاجئون والتاريخ وسط الانتخابات التركية

العامل الخطر في المعركة الانتخابية التركية الأخيرة، هو غياب الخطاب الحقوقي الديمقراطي العقلاني

وسيم الشرقي
14.04.2019 5.40pm
Ton Koene/DPA/PA Images

في كتابه "ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية" يفنّد المؤرّخ البريطاني فيليب مانسل الوهم الحاضر في كثير الأذهان، حول حياة التعايش المشترك في مدن مشرقية كوزموبوليتانية سابقة، وهي إزمير التركية (سميرنا سابقاً) بيروت اللبنانية، والإسكندرية المصرية.

عبر كتابه الذي صدرت ترجمته العربية نهاية العام 2017، يعود مانسل إلى العديد من القصص والحوادث التي تضع القارئ في نسخة أكثر واقعية من الصورة النوستالجية المتخيلة، عن حياة التنوّع والتعدد المشرقي في مدن الإمبراطورية العثمانية السابقة، فالجماعات الدينية والإثنية المختلفة، من عرب وأتراك ويونانيين وإيطاليين وغيرهم، لم يكونوا في أية لحظة منصهرين في بوتقة واحدة تلغي اختلافاتهم.

بل على العكس من ذلك، كان "التعايش المشترك" قائماً على توازنات اقتصادية هشّة مبنيّة على المصالح المشتركة المؤقتة، وقابلاً للانهيار في أيّة لحظة، كما في حالة الكوارث العديدة التي شهدتها المدن المذكورة في كتاب مانسل، والذي كان قد سبقه بكتاب مماثل عن مدينة إسطنبول التركية، صدرت نسخته العربية بعنوان "القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم".

أمّا اليوم وبعد قرابة المئة عام على انتهاء الإمبراطورية العثمانيّة، تصحو إسطنبول التي "اشتهاها العالم" يوماً كما باقي المدن التركية الأخرى من آثار معركة انتخابات بلدّية حادّة، بين الأطراف السياسيّة التركيّة المختلفة، معركة استخدمت فيها الهويات الثقافية والإثننيّة كسلاح رئيسي لحصد الأصوات، وكأنّ الدولة التركية بنسختها الحديثة لم تقم بعد، وأنّنا ما زلنا نعيش في عصر المدن الامبراطوريّة المشرقيّة القلقة.

Help us uncover the truth about Covid-19

The Covid-19 public inquiry is a historic chance to find out what really happened.

ديربي السوريين وثقافتهم الغريبة

في سياق الحملة الانتخابيّة الأخيرة للحزب "الجيّد" iyi parti، تداولت وسائل الإعلام التركية السوريّة على حدّ سواء بكثافة فيديو لإلاي أكسوي المرشحة عن "الحزب الجيّد" وهي تدور في حي الفاتح الإسطنبولي، مندّدة بكثرة المحال التجارية التي افتتحها اللاجئون السوريون في الحي ذي الكثافة السكانية السوريّة، والتي تحمل أسماءً عربيّة وتبيع منتجات كتب عليها أيضاً بالعربيّة "كيف لأطفالنا أن يشتروا مثل هذه المنتجات التي لا نفهم ما الذي كتب عليها؟" تتسائل أكسوي، بينما تحمل في يدها كيساً من رقائق البطاطا السوريّة الشهيرة من ماركة "ديربي" الأمر الذي جعل الفيديو يتداول بشكل ساخر ومكثف في أوساط السوريين.

فالمنتج السوري الشهير، لا يتمتّع بأهميّة أو قيمة خاصّة على مستوى الجودة التي تنافسه فيها منتجات أخرى كثيرة سواءً في السوق التركيّة، أو حتّى الأوروبيّة التي يتواجد فيها الديربي أيضاً في محال السوريين، وللمفارقة الأتراك أيضاً.

أغلب الظن أنّ القيمة يحملها المنتج تأتي من حمولته "النوستالجيّة" بالنسبة للسوريّين، ذلك لارتباطه بأيّام التسعينيات والندرة في المنتجات المختلفة ومنها رقائق البطاطس التي تسيدها الديربي في حينها كمنتج شبه وحيد، الأمر الذي تغيّر مع الألفيّة الجديدة، وحتى اليوم، حيث لا يحظى المنتج في الداخل السوري بأهميّة خاصّة، فما من داع للنوستالجيا السوريّة في الداخل السوري.

ولكن المرشّحة التركية للانتخابات لم تكن مشكلتها طبعاً مرتبطة بمعنى المنتج للسوريين، ودوافعهم شبه المازوشيّة لإنتاجه وبيعه في تركيّا، بل كانت معنّية بما تراه نوعاً من "الاحتلال الثقافي" الذي ينجزه السوريّون، ومن ورائهم السيّاح العرب لأحياء مدينة إسطنبول، وكذلك الأمر بالنسبة للّغة العربيّة التي رأتها مكتوبة على الكيس متجاهلة الترجمة التركيّة المكتوبة بجوارها، الأمر الذي حرّض الرئيس التركي لمحاججة المرشّحة في أحد خطاباته الأخيرة، متسائلاً لماذا لا تنزعج من المنتجات الأخرى التي تكتب أسمائها باللغة الإنكليزيّة أو الفرنسيّة؟

بطبيعة الحال، يعرف إردوغان الجواب على سؤاله، كما تعرف المرّشحة لمن كانت تتجه في خطابها، فالمعركة الانتخابيّة التي تتصاعد حدّتها في أيامها الأخيرة دارت معظم تفاصيلها في عالم الرموز والتصوّرات الثقافيّة، على الرغم من كونها نظرياً انتخابات بلديّة محليّة، أقرب إلى الجانب الخدمي.

ضمن عالم الحرب الثقافيّة التركيّة الداخليّة ذاك، تشكّل اللّغة العربية المكتوبة على كيس الديربي إشارة واضحة لمستقبليها من الجمهور التركي، فمن المعروف أنّ مؤسّس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال كان قد ألغى استخدام الحرف العربي في اللغة التركّية مستبدلاً إيّاه بالأحرف اللاتينيّة، في خطوة كان أحد أبعادها القطع مع تراث الخلافة الإسلاميّة التي كانت إسطنبول تشكّل عاصمتها، حتّى أنّه نقل العاصمة نفسها إلى مدينة أنقرة ضمن مجمل خطوات كثيرة للقطع مع تراث الإمبراطوريّة العثمانيّة، وبطبيعة الحال ولاياتها العربيّة، وهي إجراءات تُفهم أبعادها بسهولة في السياق اليومي المعاش في تركيّا، دون الحاجة لشرحها للناخبين والتذكير بها، فتذمّر المرشّحة من "الكتابة الأجنبيّة" على الكيس، يعني بعبارة أخرى انتقاد سياسية حزب العدالة والتنمية المنفتحة على المنطقة العربيّة، والمستقبلة للاجئين السوريّين غير المرغوب بهم، والأهم من ذلك المخالفة لتصوّرات أتاتورك عن الأمّة والدولة التركيّة.

ضمن هذه المعركة السياسيّة الشعبوية ثقافويّة الطابع، لم يوفّر حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولا أحزاب المعارضة أيّاً من الخطابات الثقافوية المتعلّقة بالدين الإسلامي وحضوره في الحياة العامّة، الأمر الذي تطوّر في الأيّام الأخيرة لحوادث في مدن تركيّة مختلفة، وسط الاحتقان الشديد الذي يعيشه التركي على نار الانتخابات المؤجّجة بالخطاب الشعبوي. منها حادثة اعتداء سيدة في أضنة على فتاتين منقبتين، وفيديو من مطار إسطنبول لشاب يشتم ركّاب طائرة إيرانية ومضيفيها كونهم كلّهم محجّبي الرأس.

التاريخ كورقة في الانتخابات

هذه المعركة ثقافوية الطابع لم تستثني أيضاً التاريخ التركي، فمن جهة وعد أردوغان جمهوره بأنّه سيعيد متحف آيا صوفيا الشهير إلى كونه مسجداً، بعد تحويله في عهد مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف تتواجد فيه أثاره المسيحية البيزنطية القديمة، إلى جوار الرموز الإسلامية.

وكورقة أخرى من التاريخ التركي المستثمر في الانتخابات تحضر معركة "جناق قلعة الشهيرة" التي خاضها الجيش العثماني في مواجهة القوات الفرنسية والبريطانية في الحرب العالمية الأولى، والتي استخدمت كثيراً في السنوات الأخيرة للدفاع عن نوع من "الأخوة التاريخية" التي تجمع بين السوريين والأتراك، حيث قاتل الطرفان جنباً إلى جنب كما تشهد قبور المقاتلين الحاضرة في المدينة، إلا أنّ المؤرخ التركي الأشهر إلبير أورتايلي أثار الجدل مؤخراً، وأيضاً في سياق الانتخابات، بتصريحات تشكّك بوجود مقاتلين من سوريا أساساً في المعركة الشهيرة، وذلك بسبب صعوبة وصولهم في ذلك الوقت على حد قوله. لا يهمّ هنا صحّة الرواية التاريخّية من عدمها، لكن مجرّد استخدامها في سياق تبرير أو تهديد الوضع القانوني والحقوقي للاجئين السوريّن هو المسألة التي تهمّنا في هذا السياق.

العامل الخطر في المعركة الانتخابية التركية الأخيرة، هو غياب الخطاب الحقوقي الديمقراطي العقلاني، خاصّة فيما يتعلق بمسألة اللاجئين، وحضور النقاش الثقافوي الشعبوي، ما يجعل الوضع التركي الحالي أشبه بمدن فيليب مانسل المتنوعة ثقافياً تنوّع المركبات الكيميائية المختلفة في قنبلة قابلة للانفجار، وليس تنوعاً بالمعنى المعولم الديمقراطي، القائم على قبول الاختلافات التي يحميها القانون، وبخاصّة بالنسبة للفئات الأضعف كالّاجئين السوريّن في تركيّا، والذين من الممكن القول بثقة إنّهم تابعوا الانتخابات البلدية التركّية بتوتّر وترقّب يعادل ترقّب المتابع التركي، زد على ذلك خوفهم الوجودي على مصير حياتهم في تركيّا، والذي يوضع على المحك مع كلّ انتخابات أو أزمة سياسيّة جديدة، لا يقصّر أحد في استخدامهم خلالها، كونهم جماعة بشرية مكشوفة وهشّة، وفي الوقت ذاته مجدية سياسيّاً في عالم السياسيّين الشعبويّين من أمريكا إلى تركيّا.

We’ve got a newsletter for everyone

Whatever you’re interested in, there’s a free openDemocracy newsletter for you.

Had enough of ‘alternative facts’? openDemocracy is different Join the conversation: get our weekly email

تعليقات

نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة
Audio available Bookmark Check Language Close Comments Download Facebook Link Email Newsletter Newsletter Play Print Share Twitter Youtube Search Instagram WhatsApp yourData