
قبل كابول، مدينة يمنية وقعت في قبضة المتشددين
بعد خمس سنوات على تحريرها من حكم تنظيم القاعدة، ما زالت مدينة المكلا والعديد من سكانها يعيشون آثار سنة من الظلام.

أعادتني مشاهد سقوط كابول بيد حركة طالبان في أغسطس / آب والأحداث المؤسفة التي توالت بعد ذلك، إلى عام 2015 وما حدث في مدينتي المكلا جنوب اليمن، عندما سيطرت عليها احد اعتى مجموعات تنظيم القاعدة لسنة كاملة.
حالة الحرب التي كانت تعيشها اليمن حينذاك جعلت من تلك المأساة مجرد معركة لم يكترث لها العالم. كانت مأساة تجرعناها وحدنا. فعندما ابحث عن أخبار من تلك الفترة لا اجد الا معلومات بسيطة على بعض المواقع المحلية التي تجرأت على النشر وافلتت من العقاب. أما التغطية العالمية فكانت شبه منعدمة.
المكلا هي مدينة ساحلية تطل على البحر العربي ويتجاوز عدد سكانها النصف مليون نسمة، هي أيضًا عاصمة محافظة حضرموت، أكبر محافظات الجمهورية اليمنية وأحد أهم مصادر الثروات النفطية والزراعية والسمكية في البلاد.
عام 2015 كنت طالبة في الثانوية العامة عندما قررت ومجموعة طالبات أن ننفذ مسرحيتنا الأولى باللغة الإنجليزية حول ثورات الربيع العربي. في ظل غياب الأنشطة الثقافية والفنية في بلادنا وتحديدًا للفتيات، كنت أحلم بمسرح داخل المدرسة وكنت على وشك تحقيق ذلك الحلم عندما بدأ كابوس لم يكن في الحسبان.
Help us uncover the truth about Covid-19
The Covid-19 public inquiry is a historic chance to find out what really happened.
في الثاني من نيسان/أبريل وبعد أشهر من الإعداد، انطلقت نحو المدرسة وقدمي تسابقان الرياح. كان هذا اليوم بالنسبة لي يومًا عظيمًا منتظرًا لكنه سرعان ما تحوّل إلى نهار مشؤوم.
حدث كل شيء ليلًا وبوتيرة متسارعة، حتى أن بعض السكان ممن تقع بيوتهم على أطراف المدينة - مثل أسرتي - لم يسمعوا تبادل إطلاق النار وعندما جاء الصباح كانوا مستعدين لبدء روتينهم اليومي.
أذكر أنني توجّهت مسرعة إلى الخارج في تمام السابعة صباحًا ولكن جارتنا استوقفتني وطلبت مني العودة فورًا إلى البيت لأن الأمور خارج الحارة الشعبية التي نسكن فيها ليست على ما يرام، ولكنني قررت أن أواصل طريقي وقلت لنفسي إنها ربما مجرد مظاهرات من تلك التي اعتدنا عليها منذ ثورة فبراير 2011؛ ولكن جارتنا كانت حازمة وتوعدتني بأنها ستتصل بأمي إن لم أعد أدراجي، واستخدمت وصفا لن أنساه ماحييت: "دخلوا يا بنتي .. البلاد لم تعد معنا.. دخلوا" .
لم أفهم تماما ولكنني عدت، ومسرحيتي لم تعرض أبدًا.
يوميات تحت الاحتلال
اقتحم عناصر تنظيم القاعدة المدينة مسيطرين على المنطقة العسكرية بعد انسحاب القوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح منها بشكل مفاجئ، كما هاجموا السجن المركزي وأطلقوا سراح أكثر من 300 سجين، أبرزهم القيادي في التنظيم خالد باطرفي المعتقل منذ 2013 والذي سيصبح "أمير المؤمنين" عند إعلان المدينة عاصمة لما سمي إمارة اليمن.
سرعان ما لاذت العائلات القادرة على السفر بالفرار برًا إلى السعودية أو عمان كما تم إجلاء الأجانب الموجودين داخل المدينة، أما نحن كأسر محدودة الدخل فبقينا وحدنا في المواجهة.
حدث كل شيء ليلاً وبوتيرة متسارعة، حتى أن بعض السكان ممن تقع بيوتهم على أطراف المدينة - مثل أسرتي - لم يسمعوا تبادل إطلاق النار
تكومنا جميعًا داخل البيت بعد تعطيل عمل المدارس والجامعات والمصالح الحكومية، كنَّا نغرق في الحر الشديد بسبب انقطاع الكهرباء لأيام متواصلة كما نخاف من الحاجة إذ كانت المرتّبات تتأخر خصوصًا خلال الأشهر الأولى.
تزامن ذلك مع نزوح آلاف العائلات من مدينة عدن التي كانت تعيش حربًا طاحنة بعد اقتحامها في آذار/مارس من نفس العام من قبل الحوثيين (أو أنصار الله كما يسمون أنفسهم) والجيش المؤيد لعلي عبدالله صالح.

وفيما كان الوضع الأمني منفلت تمامًا في عدن، أُشيع أن تواجد القاعدة في المكلا ما هو إلا لحماية حضرموت من المدّ الحوثي خاصة أن مقاتلو القاعدة أطلقوا على أنفسهم اسم "أبناء حضرموت".
وفيما كان التحالف العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية وبدعم من الولايات المتحدة يركز على هدفه الرئيسي المتمثل بالحوثيين، بدت سيطرة القاعدة على المكلا مجرد مسمار آخر في نعش حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي ومجلس الوزراء الموجودين في الرياض بعد فرارهم من صنعاء عام 2014.
كنا عادة نتحلّق يوميا كعائلة لسماع نشرة أخبار الثانية على الإذاعة فيما نتناول وجبة الغداء؛ ولكن ذات صباح بعد دخولهم بيوم واحد فقط صحونا على خبر احتراق مبنى الإذاعة مع كل الوثائق والمستندات والصوتيات النادرة والقديمة فيه.
بعدها توالت حوادث النهب في ظل الفوضى فأصبح بعض السكان المحليين يحملون على ظهورهم مكتب من هذه الإدارة وكرسي من هذا المعسكر والأفظع على الإطلاق كان تقاسم البنادق والمسدسات من مخازن الأسلحة.
أما النهب الأكبر فكان ذلك الذي قامت به عناصر التنظيم. فوفقًا لتحقيق أجرته وكالة رويترز، نهب التنظيم ما يصل إلى 100 مليون دولار من فرع البنك المركزي، و1.4 مليون دولار من شركة النفط الوطنية، كما جمعوا ما يصل إلى مليوني دولار يوميًا من الضرائب على البضائع القادمة إلى الميناء.
لا توجد أعداد دقيقة لمن اختطفوا او تم إخفائهم قسريًا في تلك الفترة والكثير منهم يتجنب الخوض في حديث عن هذه التجربة القاسية
كان عناصر التنظيم يتجولون بسياراتهم "التويوتا لاندكروزر" في أنحاء المدينة متبجّحين بسلطتهم وقادرين على شراء أي شيء مقابل حزم من الأوراق النقدية التي يحملونها.
يحكي سالم وهو عامل في سوبر ماركت أن "أحد عناصر التنظيم كان يأتي بشكل يومي فترة الظهيرة ليشتري أفخر الحلويات والمرطبات بكميات كبيرة ويرمي بحزمة من النقود ويغادر دون أن يأبه لاستعادة الباقي" كان هذا في نفس الوقت الذي يفكر فيه المواطن العادي في كيفية كسب قوت يومه في ظل الشلل الكامل الذي فُرض على المدينة.
قمع الحريات
تحت وقع الصدمة خفتت أصوات النشطاء والحقوقيين والصحفيين فمن تجرّأ على نشر أي مادة تخالف الحكّام الجدد أو تنتقدهم كانت سياراتهم ذات الدفع الرباعي تركن بجانب بيته ويتم اعتقاله ليختفي في سجون سرّية داخل المدينة أو خارجها.
"كنت أكتب منشورات على فيسبوك ضد الجماعات المتطرفة التي تسمي نفسها أبناء حضرموت" يقول محمد وهو حاليا جندي في النخبة الحضرمية التي تدربها وتديرها الإمارات "ولأنني شعرت بالخطر، هربت لمدة أربعة أشهر إلى خارج المحافظة ولكن فور عودتي في شهر آذار/ مارس 2016 تم اختطافي من أمام محل للصرافة".
استمر اختطاف محمد 22 يوم - بحسب قوله - كان يتم خلالها نقله من منطقة إلى أخرى وهو معصوب العينين، "مازالت هواتفي المحمولة التي صادروها معهم حتى اليوم"
ولم يطلق الخاطفين سراح محمد إلا عند بدء قصف طيران التحالف "فور خروجي من المعتقل توجهت لعلاج آثار التعذيب في مناطق حساسة من جسمي"، يضيف.
لا توجد أعداد دقيقة لمن اختطفوا أو تم إخفائهم قسريًا في تلك الفترة؛ الكثير منهم يتجنب الخوض في حديث عن هذه التجربة القاسية إما بسبب آثارها النفسية أو بسبب شعورهم أن عودة القاعدة ممكنة في أي لحظة. معظم الناشطين والصحفيين الذين تواصلت معهم والذين فضلوا عدم ذكر اسمائهم إما هربوا أو لزموا بيوتهم و مخابئهم خلال حكم التنظيم، أما من لم يسعفهم الوقت تعرضوا للتعذيب المبرح ولم يطلق سراحهم إلا بعد أن استعادت قوة قوامها 10 آلاف جندي من النخبة الحضرمية المدينة في أبريل 2016.
صنف مسؤولون أمريكيون حركة القاعدة في الجزيرة العربية "التي سيطرت على المكلا" كأكثر مجموعات تنظيم القاعدة دموية؛ وهذا يفسر المشاهد المرعبة التي اعتدنا على رؤيتها كجثتين تم تعليقها من على جسر سيارات يربط شرق المكلا بغربها ويطل على شاطئ البحر.

كان المقاتلون ينفذون أعمال العنف هذه بدعوى أنها أحكام الشريعة الإسلامية التي تصدر من "الحسبة" وهي دائرة تقوم مقام القضاء وقد اتخذت من مبنى المجمع القضائي مركزًا لها بعد منع الموظفين من ممارسة عملهم شأنهم شأن كل موظفي السلك الحكومي.
طالت أحكام الحسبة بعض الشعائر الدينية لطوائف مثل "الصوفية" وهي أحد المذاهب السنية المنتشرة داخل حضرموت؛ فمُنِعوا من إقامة حلقات الذكر والموالد بحجة أنها "بدعة وهرطقات" بحسب رواية أحمد بارويس وهو أحد المنتمين لذلك المذهب، كما عمد عناصر التنظيم الى هدم قباب مزارات الأولياء الصالحين المنتمين لهذا المذهب والتي تشكل قيمة دينية وعاطفية مهمة عند الأهالي.
كما هو الحال مع طالبان في أفغانستان، كانت النساء أولى أهداف القاعدة في المكلا وذلك لكسب ود المجتمع الذكوري عبر فرض قيود على المرأة تحت مسمى تعاليم الدين، كفرض لبس البرقع مثلاً، كما كانت هناك حركة واسعة لطمس أي أثر أنثوي من الشوارع عبر شطب الصور والشعارات من على لوحات الإعلانات وواجهات المحلات.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل الى العنف الجسدي؛ "لا يمكنني أن أنسى مشهد تنفيذ حكم الرجم حتى الموت على امرأة متزوجة اعترفت بأنها أقامت علاقة غير شرعية مع رجل من التنظيم" يذكر محمد (اسم مستعار) في محادثة خاصة "تم تنفيذ الحكم فيها ولكن لم ينفذوه في شريكها"، يضيف الشاب الثلاثيني.
لم تكن هذه المرة الوحيدة التي تم الاعتداء فيها على امرأة. فقد حدث أن هاجم العناصر بيت طبيبة وناشطة مجتمعية معروفة - لن اذكر اسمها لحمايتها - تدير مؤسسة نسوية اجتماعية تقوم بأعمال إغاثة؛ اختطفوا أخوها وزوجها لأنهم إعلاميين غطوا مظاهرة ضد القاعدة كما هددوا بقتل والدها المسن، عاد أخوها ولكن زوجها مازال مختفيًا حتى اللحظة ولم يرى ابنه الذي أتمَّ عامه السادس.
آثار لا تزول
بعد خمس سنوات على نهاية حكم التنظيم ما زال تأثير هذه الفترة باديا على المدينة؛ فإلى جانب التشدد والخوف وآثار ما بعد الصدمة، أصبح الصوت المعتاد في الأماكن العامة والحارات الشعبية ووسائل المواصلات - بدلًا من الأهازيج البحرية وفن الدان الجميل الذي تتميز به مدينتنا الساحلية - هو أناشيد القاعدة التي تتحدث بشكل مباشر عن الجهاد والقتل والعنف.
استطاع التنظيم كسب ود البعض خلال فترة حكمه عبر توفير بعض الخدمات الأساسية والفصل في بعض النزاعات في ظل الغياب التام للدولة، وما زال بعض المستفيدين من تلك الخدمات يتغنون بحسناته حتى اليوم.
في منشور لها على فيسبوك تقول فاطمة (اسم مستعار) وهي طالبة طب: "لقد جاؤوا ليقربونا إلى الله وجعلونا نصحو من غفلتنا؛ لم أعد أتحدث الى الشخص الذي كنت مرتبطة به، حافظوا على شرفنا وأعراضنا وحمونا من هجوم الحوثي، جزاهم الله عنّا خير الجزاء".
انضم العديد من الشباب والمراهقين للجماعات المسلحة إما لكسب الرزق أو لأنهم تأثروا بأفكارهم بشكل أو بآخر؛ منهم من تعرض للقتل أثناء معركة التحرير ومنهم من تم اعتقاله فيما بعد من قبل جيش النخبة والقوات الإماراتية التي كانت متواجدة لفترة لترسيخ الأمن في المدينة.
بعد خمس سنوات على نهاية حكم التنظيم، ما زال تأثير هذه الفترة باديًا على المدينة
ولكن التأثير الحقيقي يظهر في الفكر المتطرف الذي ما زال يتبناه بعض الشباب خصوصًا في ظل غياب الأنشطة الفنية والرياضية التي من شأنها إلهاؤهم وتفريغ طاقاتهم؛
فالمنشأة الحكومية الوحيدة المجهّزة للفعاليات والمسرحيات والحفلات الرسمية وغيرها وهي "مركز بلفقيه الثقافي" تم إتلافها بالكامل أثناء معركة التحرير بعد أن اتخذها مقاتلو القاعدة ملاذا آمنا للاختباء من قذائف وصواريخ التحالف.
وفيما يتم ترميم المركز حاليًا بتمويل من الهلال الأحمر الإماراتي ما زال يقوم بدور المعسكر لبعض جنود جيش النخبة الحضرمية الذين يتولون نقطة التفتيش في الشارعين الذي يطل عليهما.
مع ذلك، نشأت بعض المشاريع والمبادرات الشبابية بعد معركة التحرير، فتم تنظيم معارض للكتاب في الحدائق العامة وكليّات الجامعة عبر متطوعين تبرعوا بكتبهم وجهدهم وأموالهم.
كما تمكنت برفقة خمس من الزميلات - تتراوح أعمارنا ما بين 18 و22 عاما في ذلك الوقت - من إنشاء نادي أطلقنا عليه اسم نادي تكوين الثقافي وهدفه خلق مساحة آمنة للشباب المهتمين بالثقافة، والأدب والفن والتراث؛ نظمنا أمسيات شعرية وموسيقية وسينمائية وندوات فكرية ومهرجانات ومعارض فنية وغيرها من الفعاليات التي أسهمت في إعادة المدنية للمدينة.
منطقة معزولة
ورغم مرور خمس سنوات على التحرير مازالت المدينة تعيش العزلة؛ فمطار الريان الدولي القريب من المدينة لا يزال مغلقًا بالرغم من عودة الحياة الى طبيعتها تدريجيًا؛ فقد اختارت القوات الإماراتية المطار ليكون مقرًا لإقامة قاعدة عسكرية مدّعين أنَّ إعادة فتحه قد يشكل خطرًا على الوضع الأمني.
منذ مطلع عام 2018 انخرطتُ في حملة مناصرة لإعادة فتح المطار ضمن فريق مكوّن من ثمان نساء أطلقنا على أنفسنا اسم "نساء حضرموت من أجل السلام". خلال هذه الفترة رأينا كيف يضطر المسافرون والعديد منهم من المرضى للسفر 300 كيلو برًا للوصول إلى أقرب مطار وهو مطار سيئون الدولي في وادي حضرموت.، بل أن الأمر وصل إلى أنيموت بعضهم أو تتدهور حالته خلال السفر البري خصوصًا أن الطريق ليست معبدة بالكامل.
أعيد افتتاح المطار بالفعل في 27 تشرين الثاني/نوفمبر2019 وتم استقبال أول رحلة قادمة من مطار القاهرة وسط فرحة المسافرين وتأثرهم. ولكن ما لبث أن عاد المطار إلى الإغلاق التام مجددًا منذ بدء جائحة الكورونا حتى يومنا هذا، وهو حاليًا لا يستقبل سوى الرحلات العسكرية والطائرات الخاصة التي تنقل الوفود الحكومية والأممية مما يُثير سخط المواطنين.
لا شكّ بأن تجربة سيطرة القاعدة على مدينة المكلا ما زالت هي الأقسى بالنسبة للعديد من سكان المدينة وهي تجربة الحرب الوحيدة بالنسبة لهم، ولكنها _للأسف_ لا تحظى بالالتفات الكافي داخليًا أو خارجيًا في ظل الحرب الطويلة التي تعاني منها معظم المدن والمحافظات في اليمن.
بالنسبة للكثير من اليمنيين محافظة حضرموت تعد الأكثر استقرارًا وأمنًا وهي الحاضنة الكبرى للنازحين ولكن بالنسبة لي فحصار المكلا سيظل الكابوس الذي أنام كل ليلة وأنا أصلي ألّا يعاود زيارتنا.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة