
A sign says 'After the Revolution we'll break it', talking about weapons, on a wall, in Aleppo. 12 July 2013. Abd Rabbo Ammar/ABACA/Press Association Images. All rights reserved.على بديهية وأحقية وجوب الثورة في العالم العربي، إلا أن الإجابة عن سؤال "لماذا" تأخذ أهمية خاصة في الوقت الحالي.
فمع طفوّ قضايا الإسلام السياسي والإرهاب والأزمات الأمنية والاقتصادية على السطح الدولي، بات الحديث عن الحرية والعدالة الاجتماعية يبدو ترفاً. وباتت أصابع الاتهام تخطئ المذنبين وتحاصر أصحاب المطالب المحقة، وليس هذا أمراً يمكن تجاهل خطورته.
ونظراً لتعدد أسباب الربيع العربي وصعوبة حصرها، نستعرض مسألتي التنمية الاقتصادية والسياسية، ومسألة دور الشباب المتشبع بالقيم الليبرالية في ظلّ العولمة، وانتشار وسائل التواصل الحديثة. وسنتحدث في مقال منفرد عن مسألة الهوية والأزمات التي تعرضت لها على المستوى القطري لأهمية الدور الذي لعبته لاحقاً في مسار الثورات.
فشل التنمية الاقتصادية
تأثرت الدول العربية في أوائل التسعينيّات بالتحوّلات الجذريّة التي طرأت على المنظومة العالميّة، المتمثّلة في انهيار الاتحاد السوفيتي، وإفساحه المجال أمام الولايات المتحدة الأميركيّة لتزعّم النسق العالمي، اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، وإعادة صياغته وفق النموذج الأمريكي المتمثل بفرض اللبرلة الاقتصادية وفق مفاهيم الليبرالية الجديدة.
نظراً لإخفاق سياسات التخطيط المركزي في العالم العربي، وتأزّم الاقتصاد في مطلع التسعينيّات، كان من السهل على القيادة السياسيّة إعطاء دور أكبر للقطّاع الخاص في التجارة الداخليّة والخارجيّة، ومن ثمّ تمّ التوجّه نحو تشجيعه على الاستثمار وفق مفاهيم الليبرالية الجديدة.
شهد الاقتصاد بمؤشراته الكلية تحسّناً ملحوظاً، لكنه سرعان ما بدأ بالانحسار في منتصف التسعينيّات. في أواخر القرن العشرين بدأ موضوع الإصلاح الاقتصادي وتوجهاته يطرح نفسه بقوة على مجمل الاقتصادات العربية؛ بعدما تمّ انتهاج سياسات اقتصاد السوق الحر في عدة دول عربية من ضمنها سوريا، بإطلاق حريّة التجارة ورأس المال وتولّي القطاع الخاص قيادة الاقتصاد.
وجرى إصدار مجموعة من القوانين والأنظمة كان من شأنها إجراء تحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة عميقة، بالتزامن مع انسحاب الدولة من أيّة استثمارات جديدة في القطّاع الصناعي، وإهمال أي إصلاح في القطاع العام الصناعي والإنشائي، وفتح باب الاستيراد مع تخفيض الرسوم الجمركيّة. الأمر الذي انعكس باتساع فجوة التمايز الطبقي في المجتمعات العربية، نتيجة الخلل الكبير في عدالة توزيع الدخل بين الفئات المجتمعية المختلفة. فقد كان للبرلة الاقتصاد، وانسحاب الدولة من الاستثمار الإنتاجي وإهمال الزراعة، دور في تنامي معدّلات البطالة، واتساع فجوة الفقر واستفحالها، حيث قادت هذه السياسات إلى إضعاف دور الدولة الاجتماعي.
ولعلّ أهمّ نتائج التحوّل إلى تحرير الاقتصاد، هو أنّ الاهتمام الكبير من قبل الإدارة الاقتصاديّة برفع معدّلات النمو الاقتصادي لم يترافق بالاهتمام بعدالة التوزيع، حيث تركّز الدخل بيد فئة محدودة من رجال الأعمال والبيروقراطيّين، واتّسعت الفجوة بين الشرائح المجتمعيّة وانتشرت ظاهرة الفساد وعدم التقيّد بالقوانين، وتولّدت عناصر الاحتجاج من هذه العوامل مجتمعة.
فشل التنمية السياسية ودمقرطة النُظم
لم يؤد التحديث الاقتصادي المتمثل في لبرلة الاقتصاد إلى تحديث سياسي يوازيه بالنوع، حيث قوبل الانفتاح الكبير في المجال الاقتصادي بالانغلاق السياسي المتستر بعباءة التعددية. واكتفت الأنظمة العربية بإفساح المجال لمشاركة سياسية شكلية لا تؤدي إلى تغيير في طبيعة السلطة. وتمّ الالتجاء إلى الأدوات الأمنية والقانونية لخنق الحريات، وتقييد الأحزاب حتى في الدول التي سمحت بقدر أكبر من التعددية السياسية، مثل الكويت ومصر، عدا عن تزوير الانتخابات والمحسوبيات، وغيرها من مظاهر الفساد السياسي، وبقيت السلطة في جوهرها أداةً بيد الأنظمة التي حكمت منذ الخمسينيات.
إدخال الطبقة الجديدة المتجسدة برجال الأعمال إلى دائرة السلطة
تمثل الفارق في إدخال الطبقة الجديدة المتجسدة برجال الأعمال إلى دائرة السلطة، الذين كانوا بالأصل نتاج لبرلة الاقتصاد، حيث آلت إليهم أصول الدولة نتيجة سياسات الخصخصة، وأصبحوا يشكلون طبقة رجال الأعمال الجدد، التي كانت تجسيداً لتحالف البيروقراطية الإدارية الفاسدة مع رجال الأعمال المستندين إلى النفوذ السياسي في أوساط السلطة الحاكمة.
غير أن هذا الواقع لم يوائم اللحظة التاريخية التي كان يعيشها النظام الدولي، الذي كان على رأس أولوياته قضية الديموقراطية والحكم الرشيد، وافساح المجال للطبقات المهمشة للمشاركة السياسية. وفي هذا الإطار نجد الكم الكبير من المؤتمرات العلمية التي عقدت تحت شعارات الإصلاح السياسي.
لكن الأحوال تغيرت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، التي أدت إلى تغيير في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، مفاده أن الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط هو الذي خلق بيئة حاضنة للإرهاب أدت إلى هجمات الحادي عشر من أيلول. وأصبح التفكير الاستراتيجي الأمريكي يقوم على قاعدة مفادها أنه ما لم يتم دمقرطة هذه الأنظمة التي سوف تنهار عاجلاً أم آجلاً، سيتهدد الأمن القومي للولايات المتحدة.
انطلاقاً من هذا التغير في التفكير الاستراتيجي، تعرضت الأنظمة العربية إلى ضغوطات خارجية مكثفة من الولايات المتحدة الأمريكية لدمقرطة الأنظمة العربية، تمثل هذا التفكير فيما عرف في ذاك الوقت بمشروع الشرق الأوسط الكبير.
انتعشت آمال النخب السياسية الليبرالية التواقة للديموقراطية بطرح هذا المشروع، لكن الأنظمة العربية استفادت من الفشل الأمريكي في العراق، الذي مثّل أولى محطات هذا المشروع، لتتخلص من تلك الضغوط الأمريكية على قاعدة استمرار المصالح.
وفي ذات الوقت تم طرح قضية التوريث في الأنظمة العربية، كأنه ردة على كل ما ساد من إمكانية الانفتاح السياسي واللبرلة ودمقرطة النظم، حيث كان نجل الأسد باسل قائداً للحرس الجمهوري، وحتى بشار الأسد كان متطوعاً في الجيش العربي السوري بصفته طبيباً، وكان مسؤولاً عن الطلبة العرب أثناء دراسته الجامعية.
وفي هذا إشارة واضحة لنية التوريث، وكذلك كان الحال في مصر، حيث صعد جمال مبارك عالياً في هيكلية الحزب الحاكم، وقوبلت نية حسني مبارك بالمعارضة الشديدة وإن لم يعلن صراحةً عنها.
انتقال القيم الليبرالية لفئة الشباب عن طريق وسائل الاتصال الحديثة
رأينا التحولات الاقتصادية التي شهدها العالم العربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، والحقيقة أنّ التحولات لم تقتصر على الجانب الاقتصادي إنما امتدت لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية.
أدت لبرلة الاقتصاد إلى اقتصار فرص العمل للشباب المتعلم
أدت لبرلة الاقتصاد إلى اقتصار فرص العمل بالنسبة للشباب المتعلم على القطاع الخاص، مما عنى تحرره من الالتزام الأيديولوجي المفروض من قبل الأنظمة الحاكمة. في الوقت ذاته أدى الاعتماد المكثف على التكنولوجيا لدى القطاع الخاص إلى تفشي البطالة في فئة الشباب.
في الوقت الذي كانت شريحة الشباب العربي تعاني الخواء الأيديولوجي، كانت وسائل الاتصال الحديثة قد أخذت على عاتقها نشر القيم الليبرالية وعولمتها، حيث تميزت فترة التسعينيات بانتشار أهم وسيلتي اتصال، الأولى متمثلة بالأقمار الصناعية التي أفسحت المجال للفضائيات الخاصة للكشف عبر برامجها الحوارية المتعددة عن مكامن الضعف في الأنظمة السياسية، والمتمثلة في الاستبداد و الزبائنية السياسية، ومن المعلوم أن لوسائل الإعلام دور محوري في تشكيل الوعي المجتمعي، لا سيما الشباب العربي المُهمش سياسياً والمبعد عن الحياة الاقتصادية، على الرغم من أنه يشكل أكثر من ثلث سكان الوطن العربي فيما يسمى طفرة شبابية.
أما التطور الثاني فهو انتشار الإنترنت، وما صحبه من منتديات ثم مواقع تواصل اجتماعي لم تخضع لرقابة مباشرة آنذاك، كما كان الحال بالنسبة لوسائل الاتصال الجماهيرية التقليدية. وبات الشباب قادراً على الاطلاع على قيم الآخر وحياته السياسية، وعقد حلقات نقاش بعيدة إلى حدّ ما عن أعين الأجهزة الأمنية. وجد الأخير في وسائل الاتصال الحديثة نافذة رأى عبرها الهوة التي تفصل عالمه عن العالم المحيط به، وأخذ يتطلع لاستنساخ ذاك العالم الآخر المختلف، وأخذ إطاره الفكري والمعرفي والقيمي يتشكّل من جديد متشبعاً بقيم الحرية والعدالة.
وكلما غالت الحكومات في تهميشها وإقصائها عن الحياة السياسية كانت تزداد احتقاناً وتطلعاً لاستعادة حقوقها المنتهكة. ونتحدث عن الفئة التي تناسب مهمة التغيير ومتطلباتها، حيث أن الأعمار من 18-22 من المراحل الأهم في التفاعل السياسي والتوجه نحو المشاركة السياسية الواعية والمنظمة. في حين يتولى الشباب في سن 22-35 مهمة القيادة في بناء مشروع نهضة الأمة، وهذه المزايا تجعلها أقدر على مواجهة أعباء التغيير.
في ظل هذه المعطيات باتت أكبر قوة اجتماعية محركة للوضع العربي هي كتلة الشباب الضخمة. ولهذا الواقع أسباب موضوعية، حيث أن فئة الشباب في العالم العربي هي الأكثر خبرة بتقنيات التقدم ووسائل الاتصال الحديثة. إضافة إلى كونه بعيد عن حالة اليأس، وانخفاض سقف الطموحات الذي عاناه الجيل السابق نتيجة تراكم الإحباطات بعد حكم الثورة المضادة، وانتزاعها الحكم من الحكومات الثورية، وتجويف شعارات الثورة واستهلاكها.
ليس هناك مبالغة في الحديث عن دور الشباب في الربيع العربي، ولو نظرنا إلى الحالتين المصرية والتونسية لوجدنا الشباب قد نهضوا لينتزعوا زمام المبادرة في تحقيق أهداف الثورتين، عن طريق التعبئة الجماهيرية ونشر الوعي الثوري، والدفع إلى النضال ضد النظامين لا سيما عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى ما يبدو، فإن العوامل الموضوعية المؤدية إلى انفجار الثورات العربية تكاد تكون متطابقة في معظم الدول العربية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الظروف التي أحاطت بفئة الشباب، وكانت شرارة الاحتجاجات، وإن لم تلعب الدور الأكبر في استمرارها، وتباين مساراتها لاحقاً.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة