
Jasmin Siddiqui from the street art project "Herakut" stand in the exhibition "Colours of Resilience" in Frankfurt Main, Germany, 06 June 2014. The exhibition deals with pictures and memories of Syrian refugee children in the various refugee camps that they have visited. Boris Roessler/DPA/Press Association Images. All rights reserved.في الـ28 من آذار/مارس عام 2011، وبعد أقل من أسبوعين على بداية الانتفاضة السوريّة، افتتح رياض عصمت، وزيرة الثقافة السوري حينها، مع نظيره التركي أرطغرل غوناي فعاليّة الأيّام الثقافيّة السوريّة في تركيّا حيث اعتبر الوزير السوري أنّ الفعاليّة تشكّل "رمزاً للعلاقات المتجذرة والمتطورة بين سوريا وتركيا وهي ليست مجرد مناسبة للتبادل الثقافي والفني بين البلدين، بل تشكل مهرجاناً دائماً من المحبة بين المثقفين السوريين والأتراك".
لكنّ مهرجان المحبّة الدائم لم يستمر أكثر من شهر واحد. ففي أواخر شهر نيسان/أبريل من العام ذاته استدعت أنقرة سفيرها في دمشق كأولى الخطوات التصعيدية تجاه النظام السوري، وتتالت بعدها اجراءات قطع العلاقات بين الحكومتين، وبطبيعة الحال مهرجان المحبّة الدائم الذي تحدّثه عنه عصمت.
بالعودة إلى المشهد الثقافي السوري في تركيّا اليوم، يبدو الواقع أكثر تعقيداً من مهرجان ثقافيّ موسمي واحد بين بلدين متجاورين. فبعد أن بات السوريّون يشكّلون مجتمعات كبيرة داخل الأراضي التركيّة، أصبح تحليل خارطة العمل الثقافي السوري يتطلّب الوقوف المرور على المدن التركيّة المختلفة، ورصد التمايزات الأيدلوجيّة بين منصّات العمل الثقافي سوريّة التكوين، وتركيّة المستقر.
عن أي ثقافة نتحدّث؟
اشتمل تعريف منظّمة اليونسكو للثقافة خلال مؤتمرها عام 1982 في المكسيك على أنّها "جميع السمات الروحية، والمادية، والفكرية، والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات"، حيث يشكّل تعريف الثقافة دوماً نوعاً من الإشكالية على المستوى الأكاديمي لتعريف المصطلح ذي الطبقات المتعدّدة، لذلك سنعتمد هنا على تعريف للعمل الثقافي السوري في تركيا منسجم مع التعميم الذي يتضمنه تعريف اليونسكو.
في سوريا ما قبل الثورة كانت مفردة الثقافة تستخدم بالعموم لتوصيف مجمل النشاطات الفنيّة والأدبيّة، وتلك المرتبطة بالعلوم الإنسانيّة، وكانت التعبيرات الدينيّة تستبعد، من أن تكون مشمولة ضمن تعريف الثقافة في سياقها السوري، ذلك على الأقل من قبل المنابر الرسميّة التي تصيغ الرأي العام.
في السياق التركي سنعتمد تعريفاً أكثر اتساعاً للثقافة السوريّة، حيث سنضمّن الأنشطة الدينيّة (الإسلاميّة) المؤسساتية ضمن إطار العمل الثقافي السوري، كونها تستحوذ على نفوذ اجتماعي قوي، بالإضافة إلى تشكيلها تعبيراً ثقافياً عن السوريين في نظر فئات كبيرة من المجتمع التركي، فلذلك سنخضعها لتصنيفنا للعمل الثقافي السوري في تركيا كونها مشمولة به، شئنا أم أبينا، ولذلك يتوجّب على الأقل ذكرها عند وضع أي خريطة ثقافيّة سوريّة، كما سيشمل تعريفنا هنا المبادرات الثقافيّة مؤسساتية الطابع، وليس تلك الفرديّة التي يصعب رصدها، ووضع استنتاجات خاصّة بها.
الثقافة قرب الحدود
لا تعتمد الفعالية الثقافيّة للمجتمع السوري في تركيّا على مبدأ الكثافة السكانية، فليست كلّ المدن التركيّة المكتظّة بالسوريين نشطة على المستوى الثقافي. يعود ذلك بداية لأسباب داخليّة تتعلق ببنية الدولة التركية، والمركزية الثقافية التي تحتلّها مدن إسطنبول وأنقرة وإزمير المنتعشة ثقافياً، مقارنة بمدن تركية أخرى، ولو ضمّت كثافة سكانيّة عالية، كمدن أورفة، وغازي عنتاب، وهاتاي، جنوباً قرب الحدود السوريّة، والتي تضمّ كلّ منها أعداداً كبيرة من المواطنين الأتراك، بالإضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين السوريّين.
أما السبب الثاني لخمول مدن الجنوب التركي ثقافياً في السياق السوري فيعود أيضاً لسياسات الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني، التي غالباً ما ينشغل عملها في الجنوب التركي على تأمين أولويات الداخل السوري الذي لا يشكّل العمل الثقافي بالضرورة أولوية في سلّم احتياجاته بسبب الحرب الطاحنة التي يعيشها. وذلك مع تسجيل استثناء نسبي لمدينة غازي عنتاب والتي تضمّ عدداً من مراكز المجتمع المدني التي تنظم أنشطة ثقافيّة سوريّة دوريّة، الأمر الذي يعود لطبيعة التركيبة المجتمعيّة السوريّة في المدينة، والتي تضم طبقة واسعة من الحاصلين على تعليم عال والذين يعملون في المنظمات السوريّة والدوليّة العاملة في المدينة. وكذلك تلعب التسهيلات الحكوميّة التركيّة الخاصّة بتلك المدينة عاملاً حاسماً في ترخيص وتسهيل عمل مثل هذه المنظّمات التي قد تواجه صعوبات في مدن أخرى.
وبشكل تفصيلي نرصد في غازي عنتاب مثلاً حضوراً متوازياً لجمعيّة الشام لتعليم القرآن الكريم الإسلاميّة والتي تنفّذ مشاريع ثقافية إسلاميّة بدعم من جهات مانحة عربية وإسلاميّة، وفي الوقت ذاته يحضر مركز بيتنا سوريا والتي تشكّل منظمة مجتمع مدني، ومركزاً ثقافيّاً علمانيّ الطابع وبدعم دنماركي.
أمّا في أورفة والريحانيّة فنشهد حضوراً لهيئة الشام الإسلاميّة[1]، وكذلك تحضر جمعيّة "شام شريف" التي تعمل أيضاً في مرسين إضافة لغازي عنتاب وأورفة وبورصة التي نجد فيها أيضاً "المركز الثقافي السوري فجر اقرأ" والذي يرفع شعار "تربية الجيل والنشأ على الأخلاق الإسلامية".
إسطنبول التناقضات
بالانتقال إلى العاصمة الثقافيّة التركيّة نشهد حضوراً متوازياً للعمل الثقافي السوري بتناقضاته المختلفة. ففي الأحياء التي تحضر الجالية السوريّة فيها بكثافة لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة مختلفة، نرصد تواجداً مكثّفاً للمنابر الثقافيّة السوريّة إسلاميّة الطابع مثل هيئة الشام الإسلاميّة، ورابطة خطباء الشام والمجلس الإسلامي السوري وغيرها. وبالتوازي مع الحضور الإسلامي تحضر مراكز ثقافيّة سوريّة علمانيّة الطابع تقدّم منتجاً ثقافياً سورياً لا دينيّاً، تتنوّع طبيعته باختلاف المركز وآلية عمله، حيث من الممكن إنجاز تصنيف أكثر تفصيلاً لهذه المراكز بناءً على آلية عملها.
ففي حي الفاتح التاريخي نجد مكتبة صفحات التي يمكن اعتبارها مع مركز الدار في حيّ بيوغلو فضاءات ثقافيّة سوريّة، تعتمد على خاصيّة وجود الحيّز المكاني كميّزة أساسيّة لعملها. فالمساحة التي تضمّها هي فضاء لإنجاز أنشطة ثقافيّة متنوّعة ومتفاوتة بالسويّة، حيث لا تلعب السوّية النوعية العالية شرطاً أساسياً لهذا النوع من المراكز التي تقوم فلسفة عملها على استقبال الجميع أكثر من الاعتماد على إنتاج محتوى فكري، أو فنّي معيّن، وهو الأمر الذي نرصده في ما سنسميّها مراكز إنتاج المحتوى الثقافي السوري.
كمثال على مراكز إنتاج المحتوى الثقافي السوري نجد مركزي هامش في بيوغلو، وآرتهير في حيّ كاديكوي، حيث يغلب على عمل هامش طابع المنتج الفكري النظري من خلال المحاضرات واللقاءات التي ينظمّها. في حين يركّز آرتهير على إنجاز إقامات فنّية للفنانين السوريّين لدمجهم في سوق الفنّ التركي من خلال تقديم منتج فنّي سوري ينافس بسويّته الفنيّة، لا بهويّته السوريّة فقط.
سوريا ما وراء الجدار
تتطلّب دراسة التعبير الثقافي عن السوريّين في محطّات لجوئهم اليوم أهميّة خاصّة، حيث قد تفيد دراسة هذه التعبيرات الثافيّة السوريّة في استشراف مصائر المجتمع السوري في دول اللجوء في الأيّام القادمة، وبخاصّة في المجتمعات التي تلعب الأهواء الشعبيّة تجاه اللاجئين فيها دوراً أكبر من الدور الحكومي الدستوري في منح اللاجئين احساساً بالأمان أو الاستقرار، كحال دول الجوار السوري بدرجة أو بأخرى.
فقبل أيّام قليلة انتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي التركيّة تغريدة لاقت صدى كبيراً كانت تصنّف المدن التركيّة بحسب تشابهها مع الممالك السبعة في مسلسل "صراع العروش" الشهير. في تلك التغريدة احتلّت سوريا موقع ما وراء الجدار. أي المكان الذي يعيش فيه المتوحّشون الذين يتربّصون شراً للآدميين الذي يحميهم الجدار الكبير من بطشهم.
يتطلّب تغيير مثل تلك الانطباعات الساخرة عن الثقافة السوريّة - كما تغريدة صراع العروش - جهوداً لا متناهية. على الأقل لنقل التصور الشعبي عن المجتمع السوري من ما وراء الجدار الذي يحمي الآدميّين من المتوحّشين في "صراع العروش" إلى مكان ما بين هؤلاء الآدميّين، لا نحلم بأن يكون الأفضل، لكن على الأقل بينهم.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة