
Creative Commons. Public Domain.وضع كلمة سر قوية، تأمين حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي، حماية معلومات بطاقتك الائتمانية وما إلى ذلك من آليات الدفاع عن النفس الافتراضية، هذا ما يتبادر إلى أذهاننا حين نسمع مصطلح "الأمان الرقمي"، وعادة ما نشعر أننا بموقع "الضحية" في هذا السياق.
إلا أن ما لا نعرفه أن شريحة واسعة من السوريين تمارس باستمرار أحد أسوأ أشكال الجريمة الإلكترونية، وتساهم بجعل الفضاء الافتراضي مسموماً. فقد تعتقد أنك جالس في منزلك تتصفح الانترنت كنشاط قانوني بالكامل، إلا أنك في الحقيقة قد ترتكب جرائم لا حصر لها.
كما تساهم هذه المجموعة، بدراية منها أو عن غير قصد بممارسة التنمر الإلكتروني، والذي يمكن تعريفه بأنه "استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات لدعم سلوك متعمد ومتكرر وعدائي، من قبل فرد أو مجموعة، بهدف إيذاء شخص أو أشخاص آخرين".
ونتحدث هنا عن التنمر الإلكتروني بمعناه الواسع غير المقتصر على المطاردة الإلكترونية، ومع أن المجال لا يتسع للحديث عن تاريخه والتشريعات التي تجرّمه وتهدف للحد من آثاره، إنما من الممكن الوقوف على بعض أسباب انتشاره لدينا كسوريين.
ولنعد قليلاً إلى الوراء، إلى بداية انتشار مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، ولنضع الاستخدامات السياسية من قبل الناشطين جانباً ولنتحدث عن المستخدم العادي. رغم أن الحديث عن سنوات القمع الطويلة التي تعرضنا لها بات يأخذ شكل الأسطوانة المشروخة، إلا أنها تلعب دوراً كبيراً في واقع حالنا اليوم، فبعد الانفتاح الكبير على العالم الخارجي، والاحتكاك مع أوساط كانت مجهولة، وجد الفرد نفسه أمام مساحة شاسعة من الحرية غير المشروطة.
نحن هنا لا نتحدث عن التعبير عن آراء سياسية، هذا النشاط المحرم من قبل الحكومة، إننا نتحدث عن مهاجمة كل ما يخالف ذوقنا، دون أية ضوابط.
كان الفرد المجرد من حق التعبير عن آرائه السياسية – والدينية أحياناً – قد وجد فضاء ينتقل فيه من حالة المقموع إلى القامع. وهو أحد أشهر مخلفات الحكومات القمعية، بدأ الأمر بالسخرية التي كانت تبدو بريئة، صفحات على نمط "جرائم الفوتوشوب"، حيث يسخر الفرد من آخر لا يعرفه بحدة تتصاعد باستمرار، ثمّ أصبحت السخرية ممنهجة أكثر حين بدأ الفرد يتعرف إلى الرأي الآخر المخالف له، سياسياً ودينياً واجتماعياً وجنسياً، وسرعان ما حل العنف محلّ السخرية.
الانفلات الأمني على الأرض في سوريا كان يحفر آثاره في سلوك السوريين، وإمكانية التخفي خلف أسماء وهويات مستعارة فتحت أبواباً واسعة للتنمر. لم يكن هناك روادع من أي نوع، فغالبية الآباء كانوا بعيدين عن وسائل التواصل الحديثة، ولم يكن يقلقهم سوى تعرّض أولادهم لمحتوى جنسي غير لائق، أو تورطهم في نشاط سياسي يعرضهم للخطر، ولم يكن التنمر الإلكتروني على لائحة الأفعال التي يرونها خاطئة واجبة المحاربة، ولم يكونوا واعين بمسؤوليتهم القانونية كأوصياء على أبنائهم القصر، وعزز ذلك غياب دور القانون في تلك الفترة في سوريا، حيث كانت الكراهية العلنية مباحة ومحبذة فيما لم تقترب من شخص الرئيس وهيبة الدولة.
ثمّ بدأت موجات الهجرة الواسعة، عبر السوريون البحار إلى بيئة جديدة يسودها القانون، ولم نتكيف بسرعة مع الفرق بين القمع وسيادة القانون، وأصبحنا أمام فئة واسعة من سوريي الملاجئ والمنافي، منها من لم يتعرف بعد على القوانين ولا يدرك أحياناً أنه يخرقها، ومنها الرافض لقوانين محيطه، وغير قادر على محاربة هذه القوانين، فيلجأ إلى تحديها في العالم الافتراضي.
أذكر هنا مثالاً واضحاً، أن تشريعاتنا ومجتمعنا يحارب المثليين ويجردهم من حقوقهم. واللاجئ في دولة تكفل للمثليين حقوقهم لا يمكنه التعبير عن كراهيته على الأرض، فيلجأ لخطاب الكراهية على الفيسبوك، ويجد جيشاً من المهللين لتعاطيه مع المسألة، ويعتقد أنه يمارس حقه في التعبير، ويرفض الاعتراف بأن ما يقوم به خاطئ، ناهيك عن أنه أيضاً غير قانوني.
ولا يقف عند هذا الحد، فعدم استطاعته مصادرة حق شاب فرنسي في الاعتقاد لا يعني أنه لن يمارس سلطته القمعية على أبناء بلده، خاصة إذا رأى في حريتها تحدّ لحريته. وأعتقد أن ما حدث مؤخراً مع الناشطة "جود عقاد" يعتبر مثالاً جيداً، فاتفقنا أو اختلفنا مع آرائها وطريقة التعبير عنها؛ إلا أن ما تعرضت له إثر نزع حجابها والتزامها بالتوعية الجنسية لا يمكن اعتباره مقبولاً قانونياً أو اجتماعياً.
والحديث عما تعرضت له يقودنا لأحد العوامل المؤثرة في تغذية الظاهرة. فقيام شاب بالسخرية من فيديو تظهر فيه منهارة بالكامل إثر حملة تعليقات ورسائل مهينة وتهديدات تعرضت لها، وتحريضه الصريح على كراهيتها ودعوتها لجره إلى المحاكم بهدف زيادة عدد المشاهدات والإعجابات في صفحته لا يعتبر أمراً يمكن تركه يمرّ مرور الكرام.
وهذا يضع المتابع أمام مسؤولية، فلا يمكنه أن يقضي وقته في توعية كل من يمارس هذه السلوكيات، وفي الوقت نفسه لا يرغب بتعزيز السلوك وترك الضحية تعاني وحيدة، خاصة وأنّنا نجد الاعتراف بمظلوميتنا ضعفاً، فلا تدافع الضحية عن نفسها غالباً وتفضل أن تعاني بصمت، أو ترد بالعنف ذاته، على أن تعترف أن المتنمر أثر بها فعلاً، وهذا يضعنا في حلقة مفرغة من التنمر الإلكتروني، إلى أن يتقدم أحدنا ويلجأ إلى القانون بشكوى رسمية.
جرائم كراهية، تهديدات إرهابية، تحريض على العنف، تشهير وسب وقذف تحت مسميات حرية التعبير والنقد البناء، كل هذا كنا نمارسه، مرة بمبررات سياسية وأخرى دينية واجتماعية، ثم لم يعد الغطاء مطلوباً، أصبحت الكراهية لمجرد الكراهية أمراً مقبولاً.
وهذا ما يمكن ملاحظته في الصفحات التي تعرض صور الفنانات السوريات الصاعدات وعارضات الأزياء الشابات. جولة في إحداها كفيلة بعرض مدى التشوه الهائل الذي نعاني منه، المبالغة في السخرية من مظهرهن والحديث عن السمعة والشرف لكل من لا يساير الذوق العام.
وأذكر هنا الممثلة "هيا مرعشلي"، وهي فنانة شابة تعتبر ممتلئة بمقاييس اليوم، تابعت مما يقارب السنة التعليقات على مظهرها، بعد أن بدأت مهنة عرض الأزياء. ولا يسعني ذكر العدد الهائل من التعليقات التي تطال وزنها وشكلها، حتى أن عدداً غير قليل يهاجم والدتها المتوفية. ويمكنك أن تلاحظ التبدّل الظاهر عليها، خسارتها للوزن، والتعب الذي يصعب إخفاؤه مع ملامحها، وليس هذا مادة للسخرية حيث أن ضحايا التنمر أكثر عرضة للانتحار من غيرهم بتسع مرات.
ويجادل بعضهم حين تواجهه بأن ما يفعله يشبه القتل بأنها شخصية عامة من حقه انتقادها. وهذا الخلط في مفهوم الشخصية العامة والحدود التي يتحول عندها النقد إلى تشهير يقود إلى هكذا شكل من التمادي، والأصل في إباحة نقدها هو التقويم وخدمة الصالح العام، ولا أظن أن ما يجري اليوم يضع نصبه هذا الهدف.
وتعتبر فئة أخرى وجود الفرد على مواقع التواصل الاجتماعي رخصة للاستباحة. فإن كان لا يرغب بأن يتدخل الآخرون في حياته عليه إذاً أن يخفيها. وهذا الطرح ليس منطقياً في أساسه، فضلاً عن أن الكثير من ضحايا التنمر بعيدون فعلاً عن الحياة العامة. فلا أعتقد أن الشابين المثليين الذين جرى تصويرهما في أحد الأزقة بدمشق كانا راغبين بعرض حياتهما العاطفية على الملأ وتعريض نفسيهما للسجن أو القتل.
فالتنمر الإلكتروني لا يشبه نظيره التقليدي، لا يمكن أن تختفي عن أنظار المتنمر فتسلم أذاه، ولا تحميك جدران بيتك ولا يقتصر ضرره على الضحية نفسها فقط، فغالباً ما يتم جرّ عائلتها للأمر وتعريض حياتها الاجتماعية والمهنية للخطر، كل هذا بهدف تمضية الوقت وتفريغ شحنات الكراهية.
إن لدينا أكواماً هائلة من الكراهية وهذا أمر مفهوم. الحرب ليست نزهة نخرج منها بصحة نفسية أفضل، نحن شعب محبط وتعرض لكل أشكال القهر التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، إلا أن هذا ليس مبرراً للتحول إلى وحوش. ومجرد أنك لا ترى دم ضحيتك لا يعني بالضرورة أنك لم تقتلها.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة