
Tunis. January 2018. Ines Mahmoud. All rights reserved.ها هي شوارع تونس تضجّ من جديد بالمطالب الداعية إلى الحرية والكرامة والعدالة، وهي المطالب نفسها التي أدّت إلى إسقاط حكم بن علي المستبدّ منذ سبعة أعوام.
طفح كيل الناس من إجراءات التقشف التي فُرضت حديثاً وخرجوا بسخطهم إلى الشوارع لبعث رسالة واضحة إلى الحكومة. وسط التحضير لتظاهرة وطنية حاشدة في ٢٦ كانون الثاني/يناير، لم يسبق لنضال الطبقة العاملة التونسية ضدّ الفقر والفساد والبطالة أن كان بهذا العزم.
انطلقت حملة جديدة واسعة بعنوان "فاش نستناو؟" (ما الذي ننتظره؟) على مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج على سياسات الحكومات الليبرالية الجديدة.
تشمل المطالب تخفيض أسعار السلع الأساسية ووضع حدّ لخصخصة المؤسسات الرسمية وتشجيع التعليم المجاني وتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للعاطلين عن العمل وتأمين الرعاية الاجتماعية والسكن للأُسر ذات الدخل المنخفض.
خلال الأسابيع الأولى، حشد التحرّك أعداداً كبيرة في جميع أنحاء البلاد وعمّت التظاهرات كافّة شوارع تونس. لكنّها قوبلت بالقمع الشديد، فاعتُقل حوالي ٨٠٠ متظاهر وناشط وقُتل متظاهر واحد.
في ١ كانون الثاني/يناير٢٠١٨، دخل قانون المالية الجديد حيّز التنفيذ وشمل ارتفاعاً في أسعار السلع الأساسية مثل الطعام والكهرباء والغاز وتقليصاً للتوظيف في القطاع العام وزيادة للضريبة على القيمة المضافة.
غالباً ما يُشاد بتونس باعتبارها المثال الساطع للـ"الثورات العربية". لكن، في الواقع، قلّما تغيّر الوضع منذ عام ٢٠١١، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي.
لا تزال معدّلات البطالة كما كانت قبل الثورة (١٥،٢% بين الرجال و٢٢،٨% بين النساء). تراجع اقتصاد البلاد المتهاوي أصلاً والذي يعتمد بشكل كبير على السياحة بعد الهجمات الإرهابية عام ٢٠١٥. استمرّ ارتفاع التضخم وسجّل سعر تداول الدينار التونسي انخفاضاً قياسياً في ٨ كانون الثاني/يناير ٢٠١٨، فبلغ ٣،٠١١ مقابل اليورو.
لتحقيق النموّ الاقتصادي، تعتمد الحكومة الليبرالية الجديدة التي يقودها حزب النهضة الإسلامي ونظيره نداء تونس، وهما حزبان يضمّان إجمالاً النخب السياسية من نظام بن علي الدكتاتوري، بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية والخصخصة.
في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٧، عندما أُدرجت تونس على قائمة الاتحاد الأوروبي السوداء للملاذات الضريبية التي تضمّ ١٧ دولة أخرى، قرّرت الحكومة الامتثال كلياً لشروط صندوق النقد الدولي وتطبيق إجراءات تقشف صارمة للحصول على القسط الثاني من قرض بقيمة ٢،٩ مليار دولار تمّت الموافقة عليه عام ٢٠١٦. بالتالي، اقترح الاتحاد الأوروبي منذ فترة وجيزة شطب تونس من القائمة السوداء.

Tunis. January 2018. Manich Msamah. Public Domain.انتقد نشطاء من الجبهة الشعبية والاتحاد العام لطلبة تونس والمجتمع المدني وحركات اجتماعية مختلفة إجراءات التقشف التي فرضتها الحكومة وشروط قرض صندوق النقد الدولي في بيانهم الصحفي الأول المشترك الذي جاء فيه ما يلي:
"كافة الحكومات المتعاقبة على تونس بعد ١٤ كانون الثاني/يناير لم تقُم إلّا بتكريس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية نفسها لنظام بن علي، ما زال الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقراً (...) لقد سئمنا الوعود الكاذبة ولم يعُد بإمكاننا الانتظار، لم يعُد بإمكاننا العيش من دون تغطية اجتماعية ومن دون رعاية صحية مجانية وتعليم مجاني وسكن اجتماعي. لم يعُد بإمكاننا العيش من دون أمل في التغيير".
قالت وردة عتيق، طالبة وناشطة من الاتحاد العام لطلبة تونس وإحدى مؤسسي تحرّك "فاش نستناو؟"، إنّ تاريخ إطلاق الحملة اختير بسبب رمزيته السياسية. منذ ٣٤ عاماً، في ٣ كانون الثاني/يناير ١٩٨٤، بلغت انتفاضات الخبز أوجها في تونس.
حتى آنذاك، كان ارتفاع سعر الخبز والسلع الأساسية الأخرى ناجماً عن إجراءات التقشف التي تسبّبت بها شروط قرض من صندوق النقد الدولي كانت حكومة الدكتاتور السابق الحبيب بورقيبة قد أخذته.
قالت: "ما زلنا نسدّد ديون بن علي لصندوق النقد الدولي". برأيها، لم تستفد الطبقة العاملة في تونس من هذا القرض بل على العكس، "ساءت الأوضاع الاجتماعية في أعقابه".
يرفض الطالب والناشط المستقلّ في تحرّك "فاش نستناو؟" وفي حملة محاربة الفساد "منيش مسامح" حمزة عبيدي قرض صندوق النقد الدولي ويقول: "بمجرّد النظر إلى تجارب الدول التي اتّبعت إملاءات صندوق النقد الدولي مثل اليونان، نجد أنّ اقتصاداتها عانَت".
بعد إصدار البيان، أُنشئت مجموعات على فيسبوك لتنظيم تظاهرات في جميع أنحاء البلاد. لكنّ ردّ الفعل العنيف على الحملة حدث بالتزامن معها.
أفاد وائل نوعر من تحرّك "فاش نستناو؟": "عندما بدأ نشطاؤنا بتوزيع البيان في مناطقهم وبرسم شعارنا بالغرافيتي في الشوارع، واجهوا مضايقات كثيرة من الشرطة وحصلت أكثر من ٥٠ عملية اعتقال في أقلّ من ٤٨ ساعة".

Tunis. January 2018. Ines Mahmoud. All rights reserved.في ٤ كانون الثاني/يناير، اندلعت التظاهرات في القيروان وتونس وصفاقس وبن عروس وسوسة. منذ ذلك الحين، امتدّت إلى مناطق القصرين وأريانة ومنوبة والكاف وتالا وسيدي بوزيد والقفصة والقابس ونابل والكاف والكبيلي وسيليانة المنستير والمهدية وباجة. حصلت التظاهرات الأكبر في المناطق الأكثر تضرراً من الفقر مثل سيدي بوزيد.
أدّت تظاهرات كثيرة إلى مواجهة مع الشرطة وحُطّمت سيارات الطبقة الوسطى واقتُحمت السوبرماركات. منذ ذلك الحين، تُقابل التظاهرات بعنف من الشرطة والغاز المسيل للدموع واعتقالات عديدة.
في ليلة ٨ كانون الثاني/يناير في مدينة طبربة، قُتل المتظاهر خمسي يفرني، وتأزّم الوضع عندها. وفق الحكومة، توفّي من جرّاء مشاكل في التنفّس أثارها الغاز المسيل للدموع. لكنّ الصور التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي تظهر دهس سيارة شرطة لخمسي. مع ذلك لا يزال تقرير التشريح غير متاح للشعب.
مع انتشار أخبار الشهيد الأوّل، دعا النشطاء من تحرّك "فاش نستناو؟" وحملة "منيش مسامح" إلى تظاهرة في العاصمة في اليوم التالي.
"منيش مسامح" تحرّك يحارب الفساد ويناضل ضدّ مشروع قانون المصالحة الذي منح العفو للبيروقراطيين الذين استفادوا بشكل ممنهج من الفساد تحت نظام بن علي الدكتاتوري.
قال هيثم جواسمي من تحرّك "منيش مسامح": "تظاهرنا في الشوارع ضدّ عنف الشرطة"، مضيفاً: "سنعود إلى الشارع للاحتجاج ضدّ إفلات قتلة الشهداء من العقاب خلال ثورة ٢٠١٠ - ٢٠١١".
سارع مسؤولون في الحكومة وفي الإعلام الشعبي إلى نشر الغضب ضدّ الثورات التي حصلت ليلة ٨ كانون الثاني/يناير. في اليوم التالي، أعلن رئيس الوزراء يوسف شاهد أنّ "ما حصل اليوم الماضي لم يكُن مظاهرة وإنّما تخريب وتهجّم". يضمن القانون حقّ التظاهر، ولكن "في الدول الديمقراطية"، يجب ألّا يتظاهر الناس في الليل.
أدان حسين الجزيري من حزب النهضة التظاهرات ولقّب النشطاء اليساريين المسؤولين عن الحركة بـ"الطبقة البورجوازية الحقيرة" التي يجب أن توقف "دعايتها الإيديولوجية".
في بيان علني، أدان نور الدين طبوبي، الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس، تدمير الممتلكات بهذه الشراسة. لكنّ الأحزاب السياسية اليسارية مثل الجبهة الشعبية والتيار نشرت بيانات داعمة للحملة السياسية وداعيةً المتظاهرين إلى الامتناع عن ارتكاب أعمال العنف. ناهيك عن التعبئة في الشوارع، يركّز تحرّك "فاش نستناو؟" على الحملة الإعلامية. بالإضافة إلى إيصال مطالب أعضائه عبر وسائل الإعلام البديلة، يدافع التحرّك عن مواقفهم ضدّ أعضاء الحكومة في مواجهات مباشرة في البرامج التلفيزيونية.

Tunis. January 2018. Ines Mahmoud. All rights reserved.شدّد عبيدي الذي دافع مؤخراً عن مواقف تحرّك "فاش نستناو؟" في نقاش مُتلفز مع مهدي بن غربية على أهمية المواجهات العلنية مع الحكومة على التلفيزيون الوطني.
يختلف الوضع اليوم عمّا كان عليه خلال انتفاضة ٢٠١١ إذ أنّ التونسيين يتمتّعون بحقوق ديمقراطية أكثر على الصعيد السياسي. أضافت عتيق: "يمكننا اليوم الظهور على التلفيزيون والتعبير عن آرائنا والتظاهر في الشوارع وعقد اجتماعات سياسية".
برأي النشطاء، تظلّل محاولة تجريم المتظاهرين عبر التركيز العلني على االشغب والتخريب في ساعات الليل التحرّكات المسالمة التي تجري خلال النهار.
أمّا نوعر، فيعتقد أنّه ثمة مسلسل من إستراتيجيات تشويه سمعة الثورة التي كان ينتهجها نظام بن علي المستبدّ. أضاف عبيدي: "استناداً إلى بعض الأحداث، تحاول الحكومة تجريم التظاهرات وتُواجه كلّ حملة ينظّمها الشباب في تونس باستمرار باتهامات زائفة بالتدمير والتخريب".
في ١٠ كانون الثاني/يناير، بعد أن أحرق المتظاهرون مبنى أمني في تالة قرب الحدود مع الجزائر، نشرت الحكومة جنودها في كيبيلي وبيزرت وسوسة لحماية المباني الحكومية. بعدها، وقعت اشتباكات عنيفة وعدّة اعتقالات واستمرّت في الليل. اعتُقل أحمد ساسي، خرّيج في الفلسفة وناشط مشهور في الاتحاد العام لطلبة تونس، من أمام منزله. فطالب نشطاء من "فاش نستناو؟" بإطلاق سراحه ونظّموا تظاهرة أمام المحكمة في العاصمة تونس حيث كان يواجه تُهمة "إثارة الشغب". لحسن الحظّ، أُطلق سراحه بعد يومين.

Tunis. January 2018. Ines Mahmoud. All rights reserved.في ١٢ كانون الثاني/يناير، نظّمت الحملة التظاهرة الوطنية الرسمية الأولى. في العاصمة، رفع المتظاهرون بطاقات صفراء للتحذير من الحكومة، منادين بشعارات مثل "أيتها الحكومة الاستعمارية، نحن نتظاهر في وضح النهار!" و"الشعب يريد إسقاط الفساد!" و"الشعب يريد إنهاء التقشف!"
في الأعوام الماضية، كانت الحكومة التونسية تتّبع خطاب "المنطق الاقتصادي" لتمرير القوانين مثل مشروع قانون العفو، مبرّرة ذلك بتقوية الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. لكنّ التظاهرات الأخيرة أثبتت أنّ هذه الحجّة لم تعُد كافية ولا ترضي الشعب.
تظهر عمليات الحشد الأخيرة أنّ تأثير التنظيم السياسي يتخطّى الأحزاب البرلمانية وأنّ التقليل من شأن مثل هذه التحرّكات غير صائب.
قال الناشط جواسمي: "يمثّل تحرّك "منيش مسامح" استمرارية التحركات الاجتماعية في تونس. أُنشئت تحرّكات كثيرة قبلنا وستُنشأ غيرها بعدنا".
أضاف عبيدي: "حشد تحرّك "منيش مسامح" ١٥ ألف شخص في الشوارع ونبني خبرة كنشطاء ونتعرّف على بعضنا أكثر ونطوّر أفكاراً واستراتيجيات ونكبر معاً".

Tunis. January 2018. Ines Mahmoud. All rights reserved.بدأ التحرّك بجمع معلومات عن مئات المتظاهرين الذين سجنتهم الحكومة مؤخراً ويجري تنظيم حملة للمعتقلين مع تحرّك "حاسبهم" الذي يعارض القانون البوليسي في تونس منذ عام ٢٠١٥.
حتى اليوم، تخطّى عدد المعتقلين السياسيين ٨٠٠ امرأة ورجل تتراوح أعمارهم بين ١٥ و ٢٥ عاماً. يُجمع النشطاء على أنّ التظاهرات ترمي إلى تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي ذكروها في بيانهم الأوّلي.
يتوقّع نوعر ثلاثة سيناريوهات محتملة:
قد تكون الحكومة مستعدّة للحوار مع الشعب ولإعادة النظر في قوانين التقشف الجديدة أو قد تلجأ إلى قمع التظاهرات عبر فرض حظر التجوّل والقيام بالمزيد من الاعتقالات، ما قد يعيق المسار الديمقراطي للبلاد بشكل خطير. أمّا السيناريو الثالث، فهو تظاهر الحكومة بأنّها غير دارية بالمطالب، ما قد يدفع الشعب إلى المطالبة بالإطاحة بالحكومة من جديد.
أضافت عتيق أنّ عدم إدراك الحكومة بأنّ التظاهرات الأخيرة ليست مجرّد اضطرابات يمكن بلسمتها عبر تغيير السياسة الاقتصادية من دون تحسين وضع الطبقة العاملة سيحوّل شعار "الخبز والماء وبن علي لا!" الذي نادى به الشعب عام٢٠١١ إلى "الخبز والماء والنهضة ونداء تونس لا!"
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة