Home

أورهان باموك والسفير الروسي: المخيّلة والواقع بين مولودين

أوجه التشابه بين بطل رواية أورهان باموك والشرطي التركي الذي قام باغتيال السفير الروسي في ٢٠١٦ مثير للاهتمام.

وسيم الشرقي
27.02.2018

Richard B. Levine/SIPA USA/Press Association Images. All rights reserved.

New York newspapers all using the same image on Tuesday, December 20, 2016 report on the previous day's assassination of Russia's ambassador to Turkey, Andrei Karlov allegedly by police officer Mevlüt Mert Altintas. Richard B. Levine/SIPA USA/Press Association Images. All rights reserved.لست متأكّداً إن كانت صدفة تشابه الأسماء بين بطل رواية أورهان باموك "غرابة في عقلي" والشرطي التركي الذي قام باغتيال السفير الروسي في أنقرة نهاية العام ٢٠١٦ تكفي كمدخل لمقاربة العلاقة بين شابّين تركيين.

أولّهما متخيّل "مولود قرة طاش" جعله أورهان باموك بطلاً لروايته التي ترجمها إلى العربيّة الراحل عبد القادر عبد اللي كأحد أواخر الأعمال التي ترجمها قبل رحيله المؤلم العام الماضي.

أما ثاني هذين الشابّين التركيين فليس شخصيّة متخيّلة، بل هو شخصيّة حقيقيّة وهو الشرطي "مولود ألتين طاش" والذي دخلت صوره والفيديو القصير لعملية اغتياله للسفير الروسي أثناء حضور الأخير معرضاً فنيّاً في حيّز المتخيّل الأدبي، متحولّة إلى نوع من الصورة الأيقونية، والتي كتب الكثير في تأويلها وتحليلها.

طبعاً لم يكن الروائي التركي الأكثر شهرة مدركاً لصدفة تقارب الاسم بين "المولودين" عند انتهائه من روايته عام ٢٠١٤، فهاجس الرجل كان كما صرّح أكثر من مرّة هو نقل حياة أناس مدينة إسطنبول "البسطاء" من بائعي المواد الغذائيّة المختلفة في شوارع المدينة، وذلك عبر سيرة بطله مولود الذي حاول من خلاله تقديم صور حياة إسطنبول كما يوضّح باموك في مطلع روايته: "قصّة حياة بائع شراب البوظة مولود قرة طاش ومغامراته وأحلامه وأصدقائه وصورة حياة إسطنبول بين عامي ١٩٦٩-٢٠١٢ بعيون كثير من الأشخاص.

أمّا حادثة اغتيال السفير من قبل مولود ألتين تاش فقد جاءت في سياق الثورة السوريّة، والحرب الدائرة على أرض سوريا بحسب ما صرّح به ألتين تاش نفسه قبل مقتله بقليل "لا تنسوا حلب! لا تنسوا سوريا!" طبعاً بالإضافة إلى عبارة "نحن الذين بايعوا محمدّاً على الجهاد" بلغة عربيّة بمخارج حروف تركيّة، إلتقطتها كاميرا المصوّر الخائف على حياته والمدرك في الوقت ذاته لأهميّة اللحظة التي يوثّقها.

تخييل الواقع ونقل المتخيل إلى الواقع

تمثّل "غرابة في عقلي" ذروة في الأسلوب الواقعي وسط عمل باموك الروائي، وذلك من جهة اتجاهه في بحثه الفنّي نحو شكل واقعي للسرد يذكّر بروايته الأولى "جودت بيك وأبنائه" أو حتّى "متحف البراءة" ولكنّه يغوص أكثر في تفاصيل التفاصيل لحياة أبطال روايته اليوميّة في أحياء إسطنبول الفقيرة، والتي جاء إليها مولود مراهقاً من قريته التابعة لولاية قونية في الوسط الأناضولي.

فعلى امتداد صفحات الرواية التي جاءت ترجمتها العربيّة في ٦٧٥ صفحة، يعيش القارئ مع مولود تفاصيل كلّ ما يفكّر به، ويأكله، ويشربه، وما يحبّ، وما يكره. كلّ ذلك بسرد واقعي يتخلّله سرد متعدّد الأصوات من شخصيّات الرواية في استعادة لتقنيّة كان باموك قد استخدمها في روايات سابقة مثل "اسمي أحمر".

من خلال التقنّيات السابقة ينجح باموك بإنجاز سرد طويل وتفصيلي لحياة مولود قرة طاش المتخيّل وينقله إلى الورق وكأنّه شخصيّة فتى، ثم شاب، ثمّ كهل من لحم ودم.

بينما على الطرف الآخر تتثبت الذاكرة على صورة مولود ألتين طاش الشاب المولود عام ١٩٩٤ كصورة "واقعيّة" لكنّها تفتح أبوباً كثيراً لمخيّلة جمعيّة على أكثر من مستوى.

المستوى الأوّل وهو صورة السفير الملقي على أرض معرض فنّي بينما قاتله "المتأنّق" ببذلة رسميّة وربطة عنق يمسك مسدّسه بيد، يرفع إصبع التشهّد الإسلامي باليد الأخرى، الأمر الذي فتح تساؤلات عديدة حول رمزيّة الصورة بما تفتحه من أبواب للتأويل عن علاقة الفن بالسياسة، وعلاقة هذين الاثنين بالإسلام، وغيرها الكثير من التفاصيل التي أدّت إلى الكثير من الكتابة حول الصورة كما ذكرنا، بالإضافة إلى فوز مصوّرها برهان أوزبيليسي بجائزة صورة العام ٢٠١٧ من مؤسسة World Press Photo، الأمر الذي أثار "اشمئزاز" رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، كما صرّح وقت منح الجائزة للصورة التي تظهر سفير بلاده مسجّى على أرض المعرض الفنّي في أنقرة.

أما المستوى الثاني الذي تثيره الصورة، أو الحادثة بمجملها فهي "مخيّلة جمعيّة يساريّة" إذا صحّ التعبير عن عمليّات اغتيال مشابهة، لدبلوماسيين ومسؤولين رسميين في دول لخدمة قضايا سياسيّة تحرّرية، كبعض عمليّات منظّمة التحرير الفلسطينيّة، أو منظّمات تابعة لها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. على أنّ قصّة مولود تبدو بعيدة عن مثل ذلك السياق، وأقرب إلى سياق تحرّكه دوافع أيديولوجيّة أقرب إلى الإسلام وأبعد عن اليسار.

فسواءً كان قد أنجز فعلته بمبادرة فرديّة، أو بدعم من تنظيم ما، فإنّه يبقى بعيداً عن الصورة التقليدية لعمليّات القرن الماضي يساريّة الطابع.

لكنّه نجح من دون شكّ في استحضار تلك الصور من تلك "المخيّلة اليساريّة الجمعيّة" والتي تستثير حنيناً غريباً لأيّام كان فيها الاعتراض على سياسات الدول يعبّر عن نفسه على أجساد ممثلّيها، كما تستثير عاطفة إعجاب برجال ونساء يخاطرون أو يضحّون بأمانهم الشخصي، خدمة لقضايا كبرى. ولكن مع تفاؤل يساري بعيد بطبيعة الحال عن العدميّة الجهاديّة في فهم معنى العمليات الانتحاريّة.

الحجر الأسود والحجر الذهبي

إذا ما أردنا التوقّف عند هذا الحدّ من التأويل بخصوص حادثة مولود الثاني (قاتل السفير) وعاملناه مع المولود الأوّل (البائع الجوّال) كشخصيتيتن متخيلتين، أو واقعيتين من تاريخ تركيّا المعاصر، نجد أن الشابّين لا يشتركان بالاسم فقط، بل أيضاً في كونهما من مناطق تركيّة طرفيّة، وليست مركزيّة.

مولود قرة طاش ينحدر من وسط الأناضول كما ذكرنا، ومولود ألتين طاش ينحدر من بلدة "سوكة" التابعة لولاية "آيدن" على بحر إيجة. كلا المولودين درس خارج مدينته، الأوّل في مدارس إسطنبول المتوسّطة والثانويّة دون أن يتمكّن من تحقيق حلم والده بالحصول على شهادة الثانوية، والثاني في مدرسة الشرطة في مدينة إزمير.

كما يبدو أنّ كلا الشخصيتين يتشاركان إحساساً بصواب الرؤية الفرديّة بعيداً عن احترام الدولة وسياساتها، فمولود البائع المتجوّل حرص طوال حياته ألّا يتعامل مع سجلّات الدولة بناءً على نصيحة والده، وذلك للتهرّب من الضرائب التي قد تثقل الفقراء مثله.

ومولود الشرطي أنجز فعلته غير مبال بسياسات حكومته التي كانت تشهد تنسيقاً كبيراً مع روسيا بما يخصّ الملفّ السوري، والذي كانت فعلته ذاتها بمثابة اعتراض رمزيّ عليه، من خلال جملة "لا تنسوا حلب" التي ردّدها بصوت عال وخائف قبيل مقتله.

في رواية باموك اختار والد مولود لقب قارة طاش، والذي يعني بالتركيّة "الحجر الأسود" ليتميّز عن عائلة شقيقه التي اختارت لقب آكطاش، أو الحجر الأبيض، وذلك خلال الفترة الأولى من عمر الجمهوريّة التركيّة التي بدأت بتسجيل مواطنيها المتناثرين في القرى النائية.

وعلى طول الرواية ستشكّل علاقة مولود الحذرة مع أولاد عمّه من عائلة "الحجر الأبيض" محوراً أساسياً لعالميه العاطفي والماديّ، كونهم يمثّلون السطلة الاجتماعيّة، والبورجوازيّة الأناضوليّة الصاعدة على هامش الصعود السياسي لحزب العدالة والتنميّة.

أمّا اسم عائلة مولود ألتين طاش فيعني بالتركيّة "الحجر الذهبي" والذي يبدو أنّه سيكون عبئاً على عائلته التي تبرّأت من ابنها ورفضت أن تقيم له جنازة، ولكن لا يبدو أن لاسم عائلة مولود الثاني قصّة من الممكن اقحامها أيضاً في معرض مقارنتنا بين الشابين. حيث تبقى الأسماء ربّما اعتباطيّة، على عكس حياة مصائر حياة المولودين، فالأوّل، وإن كان شخصيّة متخيّلة، فقد اختار العمل الجاد والحريّة الفرديّة كطريق يؤدي إلى الخلاص على هامش التحوّلات الكبرى في مدينته. أمّا الثاني فقد اختار الوجود وسط هذه التحوّلات، وإنهاء حياته مبكّراً في محاولة عبثيّة لتغيير اتجاهها.

Had enough of ‘alternative facts’? openDemocracy is different Join the conversation: get our weekly email

تعليقات

نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة
Audio available Bookmark Check Language Close Comments Download Facebook Link Email Newsletter Newsletter Play Print Share Twitter Youtube Search Instagram WhatsApp yourData