Home

بين هوس العَظمة واليأس، هل فقد السيسي صوابه؟

English .صنعت الدولة المصرية دائرة مفرغة من اليأس الشعبي والإرهاق العاطفي

Sarah Adel
18.10.2016

Julie Jacobson/AP/Press Association Images. All rights reserved.

Julie Jacobson/AP/Press Association Images. All rights reserved.’خلقني الله طبيباً قادراً على تشخيص الحالات. هكذا خلقني. أعرف الحقيقة وأراها. أصغوا إليّ. حتى العالم يقول لكم "أصغوا إليه."‘

بهذا الكلام، تحدّث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن حكمته غير المسبوقة وقدراته الخاصة. ولا يزال يصف نفسه كـ"مداوي الفلاسفة" و"قدوة سياسيي العالم وأهل الفكر والخبراء الإعلاميين وأعظم فلاسفة الكون، إذا صحّ التعبير." كما يمكنه توقّع مستقبل مصر انطلاقاً من الأحلام التي تراوده في الليل.

طالما يعتبر السيسي نفسه محور انتباه القادة العالميين والفلاسفة، لا حاجة إلى تخيّل مدى معاناة شعبه. فلم يتوانَ الرئيس المصري قطّ في أي من خطاباته عن الإغداق على شعبه بالتقييم الذاتي أو التسلّط الأبوي. وغالباً ما يلقي خطاباته هذه بعد أزمة تتطلّب اتخاذ تدابير سياسية و/أو اقتصادية طارئة.

وشهد هذا العام عدّة سجالات حامية حول تسليم جزيرتين في البحر الأحمر إلى السعودية. في أحد خطاباته، أخبر السيسي حتوتة كانت تقصّها عليه والدته قبل النوم وتنصحه فيها بعدم اشتهاء مقتنيات الآخرين. ولكن ما هذا الأسلوب الذي يعتمده لمساعدة شعبه على فهم المسألة والتغاضي عن غضبهم الناجم عن تسليم جزء من بلادهم إلى دولة أخرى؟

في بدايات 2016، خلال إلقائه خطاباً عن التقشف والأوضاع الاقتصادية المتدهورة، طمأن السيسي شعبه بأنه مستعدّ لعرض نفسه للبيع إذا كانت مصلحة البلاد تستلزم ذلك. وفي الخطاب نفسه، أمر شعبه بوقاحة بالإصغاء إلى كلامه فقط.

إنّ حديث السيسي عن نفسه وعن أحلامه وقدراته الخاصة وإتيانه على ذكر أمور مثل الأرواح الشريرة يبدو مأخوذاً من أفلام الخيال. غالباً ما تكون ردود فعل الناس على كلامه مليئة بالسخرية والنكات ولكن سرعان ما يدركون أنّ الأمر ليس بالمزحة، بعد أن يلاحظوا التدهور المنتظم للاقتصاد المصري.

والمربك هو تقبّل الناس الملحوظ ودعمهم حتى لترّهاته. ولكن ما السرّ؟ أهي هيبته؟ أو أنّ حكمته غير المسبوقة هي التي تأسر قاعدته الشعبية؟

لست أزعم غياب معارضة متزايدة ولكن أحاول فهم قدرة الرئيس على اختلاق قصص عن "الحكمة" بكلّ ثقة وتمكنّه، على الرغم منها، من المحافظة على قبول الشعب في كلّ مرة يحاول فيها اتخاذ خطوة إضافية.

لمَ لا يرى مؤيدو السيسي الجنون الذي يشوب هداياه المزعومة؟ ما العقد الذي يجمع بين القائد المهووس بالعظَمة وداعميه المعميين لتشكيل هذا الرابط السياسي-الاجتماعي المهيمن المعاصر؟

تغذية هوس العظَمة 

يصعب التصديق بأنّ السيسي، الذي يُعتبر قائداً إستراتيجياً استثنائياً حشد الملايين من المؤيدين له، لا يدري ما يفعل. فهو قاد انقلاباً ناجحاً على إحدى الجماعات السياسية الأكثر ثباتاً في المنطقة وهي جماعة الإخوان المسلمين وتمكّن من قمع ثورة واعدة للعالم خلال فترة قصيرة جداً (ثورة يناير 2011).

ولكن سرعان ما يدرك المرء أنّ السيسي ليس استثنائياً على الرغم من أنّ هذا النمط محيّر في سياق السلوكيات العسكرية.

فمنذ فترة ليس ببعيدة، زعم جنرال في الجيش أنّه وجد دواء يشفي من مرض الأيدز ومن فيروس العوز المناعي البشري HIV والتهاب الكبد الفيروسي "ج" بموافقة وتسويق من مؤسسته العسكرية. وفي سياق مشابه يحيّي السخافة، تحدّث جنرال آخر في الجيش عن تكتيكيات خلّاقة وقائية (وطبيعية) من الحرب في حال أطلقت إسرائيل هجمات نووية. وقال إنّ مناخ مصر يتميّز برياح شمالية غربية وإذا تعرّضت لهجوم ما من إسرائيل، ستتولّى الرياح ردّ الهجوم إلى إسرائيل. صدّقوا أو لا تصدّقوا، تفوّه هذا الجنرال بهذه النظريات بقناعة مطلقة وتهنئة واحترام للذات. وتحدّث الجنرال نفسه عن معركة شرسة خلال إحدى مهماته العسكرية اضطُرّ فيها إلى ملاحقة جرذان.

لدى النظر إلى هذه الأمثلة، يدرك المرء أنّ هؤلاء الأشخاص يجسّدون ظاهرة مترابطة على ما يبدو وهي "هوس العظَمة". ويثبت مجرّد توثيق هذه الأحداث وعرضها على الشعب أنّها ليست استثنائية واّن وقاحة المؤسسات العسكرية بلغت حدّها.

تتميّز المؤسسات العسكرية بهرميّتها المؤلّهة التي تنطلق من أعلى المراتب إلى أدناها. وإذا خدم شخص ما في المؤسسة العسكرية لفترة طويلة، ثمة احتمال كبير بأن ينسى معنى أن يكون مخطئاً أو منتقداً أو مشكّكاً بكلامه.

ففي المؤسسة العسكرية، إذا لم يلقِ عنصر التحية على عنصر أعلى رتبة منه، يُستجوب أو يُعاقب حتى. وإذا لم تنفّذ أوامره، ستُعاقب حتماً. أتحدّث عن أسخف وأبسط الأوامر التي لا ترقى إلى مستوى انتقاد المسؤول الأعلى رتبة أو معارضته أو توصيفه. وبعد فترة طويلة في بيئة تُختصر بتلبية الأوامر للارتقاء في المؤسسة العسكرية، يُمكن القول إنّ المرء عرضة لنسيان معنى أن يكون مخطئاً، بسبب ميل الإنسان إلى التكيّف. هل ينبع هوس العظَمة من هنا؟

تسوء المشكلة وسط غياب أي شكل من أشكال المرجعية الدراسية ومع تدهور التعليم على مرّ العقود وارتفاع نسبة الجهل. وبذلك، يصبح كلام حضرته الكلي العظمة أي الجنرال المصدر الوحيد للصواب والعدالة والمنطق. ويستطيع أيّ جنرال أو مشير أن يعظ مرؤوسيه عن أي موضوع في أي مجال. وإذا شكّك أحد في كلام مسؤول عسكري، يُتّهم بالخيانة العظمى وإذا كان هذا الشخص من داخل المؤسسة العسكرية، يواجه عقوبة.

على سبيل المثال، انتقد عصام حجي جهاز الأيدز الذي "اخترعه" جنرال في الجيش لعدم اتباعه أسلوباً علمياً. واتّهم الطالب بالخيانة العظمى وبتضليل عامّة الناس والتآمر على بلاده.

هل يمكنك تخيّل نتيجة دمج الجهل مع الحصانة من العقاب؟

شعب يائس 

أمام تفوّه المسؤولين بترهات عفوية غير مقنعة، ما الذي يجعل الشعب ينصت ويصدّق ما يقولونه؟ تدعم الشخصيات النخبوية والسياسيون والإعلاميون والمشاهير القيادة السياسية في مصر لسببين رئيسيين: أولاً، لأنّ هذا الدعم يحميها تلقائياً من آثار القرارات الاقتصادية والاجتماعية السلبية للدولة. وثانياً، لأنهم يستفيدون أكثر من التملّق للقيادة التي تمسك بزمام الحكم.

ولكن ماذا عن المواطن المصري العادي؟ ما الذي يرغمه على التمسّك بهذه المهزلة؟ فهو يدفع ثمن كلّ قرار يُتّخذ. أهو تحت تأثير تنويم مغناطيسي تمارسه الحكمة غير المسبوقة لرئيسه؟ أو هو يصدّق فعلاً ما يُقال له؟

أعتقد أنّ السرّ يكمن في وصفة من اليأس والأمل. وأحياناً، وسط يأسنا التوّاق إلى التغيير، نتعلّق بشرارة أمل حتى ولو كان هذا الأمل زائفاً. ويتمسّك هذا التفكير الرغبوي غير المنطقي بشيء ما أو شخص ما يعد بغَد أفضل. ويصبح الغد تعبيراً مجازياً يعكس زمناً قد لا يأتي أبداً. ولكنّ ذلك غير مهمّ طالما الوعد يتجدّد الصباح التالي.

على الرغم من أنّ درجة التهكّم والقلق التي تختلج الناس لا تسمح لهم بأن يرضوا بهذا الواقع، إنهم في الوقت نفسه مُجهدون عاطفياً ويفضّلون عدم مواجهة حقيقة أنّه يتمّ التلاعب بهم وإعطاؤهم وعوداً فانية مراراً وتكراراً.

فبعد ثورة واعدة وخمس حكومات ودورتين للانتخابات البرلمانية وسباقين رئاسيين (على الرغم من الطابع الجدلي لشرعية كلّ منها) واعدين بدورهما، يشعر الناس بالتعب والإرهاق ولم يعودوا قادرين على الوقوف في وجه واقعهم الاجتماعي البائس والبشع.

الخلاص – حكومة القمع 

لا يصدّق الجميع تصريحات القائد الجنونية وحتى الأشخاص الذين يصدّقونها لا يمكن تنويمهم مغناطيسياً كلياً. فطمس وعي الناس يتطلّب إطاراً أوسع يشمل الأوقات التي يطفح كيلهم من الكذب عليهم. وهنا تلعب شرطة السيسي ومؤسسته العسكرية وقضاؤه دورها.

فمن خلال تشويه سمعة كلّ شخص يهين الدولة، تحتفظ الدولة بالحق الحصري لتكون عادلة. وعبر دقّ ناقوس الخطر ورفع راية "محاربة الإرهاب"، نجَحت الدولة المصرية حتى الآن في قمع الآلاف في السجون وتجاهل أي تساؤلات شعبية عن وعودها المزعومة.

على سبيل المثال، علّق الجنرال كمال عامر في شهر آب/أغسطس 2016 على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وقرّر نيابة عن الناس أنّ كلفة ارتفاع الأسعار كانت معقولة مقابل السلامة والأمن اللذين قدّمتهما حكومة السيسي. ولا عجب أنّ كلفة "التفكير" في معارضة الدولة أصبحت باهظة مع إرساء تدابير قمعية في الوقت نفسه: اعتقالات سياسية، اختفاءات قسرية وأحكام جماعية.

بالتالي، بنت الدولة المصرية حلقة مفرغة من اليأس الشعبي والإرهاق العاطفي.

قال كارل ماركس إنّ "الدين أفيون الشعوب." وبرأيي، هذا "الأمل الزائف" أصبح المخدّر والموت البطيء لتطلّعات الناس إلى مستقبل أفضل بالفعل. وسيظلّ الناس خائفين من المجهول إلى أن يصبحوا جاهزين لمواجهة واقع تضليلهم بالآمال الزائفة.

Had enough of ‘alternative facts’? openDemocracy is different Join the conversation: get our weekly email

تعليقات

نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة
Audio available Bookmark Check Language Close Comments Download Facebook Link Email Newsletter Newsletter Play Print Share Twitter Youtube Search Instagram WhatsApp yourData