Home

تركيا 2016 ومصر 2013: سياسة الوقت

ليست القدرة على تمييز اللحظة التاريخية عن غيرها من اللحظات هي التي تفرّق المسار التركي عن المسار المصري وإنّما هي اللحظة التاريخية بحدّ ذاتها وما تمثّله. English

Hesham Shafick
14.08.2016

Martin Meissner/AP/Press Association Images. All rights reserved.

Martin Meissner/AP/Press Association Images. All rights reserved.كان عالِم الاجتماع والسياسة حازم قنديل أوّل مَن توقّع عدم إتمام مرسي لمدّة حكمه. ويكمن سرّ بُعد نظره المصيب في تقييمه لمشكلة الإخوان المسلمين التي كانت مبهمة آنذاك.

وبرأيه، تنبع المشكلة من سوء تقدير الإخوان المسلمين للـ"التوقيت الثوري" في فترة حكمهم. في كتاب نشره في وقت لاحق، فسّر قنديل فكرته أكثر وتحدّث عن ارتباك الإخوان المسلمين بين لحظة سطوع نجمهم التي طال انتظارها (من خلال الإصلاح الإسلامي) ولحظة وصولهم إلى سدّة الحكم في مصر (من خلال ثورة). وكلمة السرّ هنا هي "لحظة".

ولكن يجوز تفسير هزيمة الإخوان المسلمين من خلال النظر إلى صبر خصمهم أي دولة الأمن في تحيّن "اللحظة" وإدراكها. وشدّد قنديل على التالي:

"إنّ السبب وراء صمود المؤسسة الأمنية في مصر يعود جزئياً إلى اتخاذها الحذر في تحيّن الظرف. ويبدو أنّها عازمة على الامتناع عن "إقرار السلام" الكامل حتى يتعلّم الثوار أنّ الفوضى هي البديل الوحيد لقمع الشرطة".

فسّر عالِم اجتماع وسياسة حذق آخر هو سيمون والدمان فشل الانقلاب الأخير في تركيا بطريقة مشابهة ولكن من الجهة المعاكسة. في تركيا، أكّد والدمان أنّ قوات الانقلاب هي التي فشلت في معرفة "اللحظة" المناسبة.

أمّا حزب إردوغان، فتوخّى الحذر في التعامل مع اللحظة ولكن حتى المعارضة المدنية (التي أجمعت على إدانة الانقلاب) بما فيها الأشخاص الذين لم ينفكّوا يطالبون باتهام إردوغان اعترفوا أنّ اللحظة لم تكُن مناسبة.

هل فشل المصريون في إدراك ما حصل في 2013؟ 

لمَ أدرك الأتراك ما لم يستطع المصريون إدراكه؟ تحدثت إحدى الحجج عن "المستوى التعليمي" الذي يميل بالطبع إلى الجهة التركية. ولكن لا يمكن أن تفسّر هذه الحجة لماذا وكيف قاد المصريون ثورة حاشدة عام 2011.

تركّز حجة أخرى على الاختلاف في مستوى الانضباط العسكري وتتطرّق حجة ثالثة إلى مدى انضباط الشعب التركي وتحديداً مؤيدي إردوغان/الديمقراطية في مقاومة الانقلاب.

وتشدّد الحجج الثلاث وغيرها على عوامل بنيوية مهمة حصّنت تركيا من الانقلاب أكثر من مصر. إذا عدنا بالذاكرة إلى الماضي، نلاحظ أنّ هذه العوامل منطقية. ولكنّ المثير للاهتمام هو أنّ الحجج لم تظهر إلّا بعد عودة حكم إردوغان بثبات. ولكن لو نجحت محاولة الانقلاب، هل كانت هذه العوامل ستبدو منطقية؟

وعبر تخيّل الوقائع المضادة، تبرز مشكلة تحليلية أساسية في التعامل مع هذه الأحداث العظيمة مثل الثورات والانقلابات. وشدّد ديديه بيغو على أنّ العلماء "يميلون إلى تفسير أحداث عظيمة بالنسبة إلى قضايا عظيمة".

صحيح أنّ العوامل البنيوية تلعب دوراً في تحديد إطار ظروف فرص محددة (وإفشال فرص أخرى). ولكنّ التفاصيل الصغيرة والممارسات الدنيوية والإدراك الغريزي والفرص والصدف حتى تقرّر ما يتحقّق من الاحتمالات المتغيّرة.

بالتالي، من الخبث اعتبار أنّ بعض العوامل "البنيوية" مثل التعليم أو الاقتصاد أو الانضباط تجعل دولة أكثر عرضة للانقلاب بطبيعة الحال ودولة أخرى محصّنة منه. فكما تعلّمنا من الأحداث الأخيرة في تركيا، الانقلاب هو رهان ذو حدّين: قد ينجح وقد يفشل (لا يتوازى وقع فشله أو نجاحه ولكنّ الاحتمالات متزامنة).

اعترافنا بهذا لا يجيب عن السؤال التالي: لمَ استطاع الأتراك إدراك ما فشل المصريون في إدراكه؟ هذا يعقّد الأمور.

فتظهر الأبعاد المتعددة في الحالتين، ما يشكّك في التخمين بوجود سيناريو واحد يؤكّد بأنّ موقف الأتراك كان أذكى من موقف المصريين بطبيعة الحال.

قد يبدو السيناريو منطقياً في هذه اللحظة نظراً إلى الوضع الفظيع في مصر بعد الانقلاب. ولكن لا أحد يعرف إذا كانت عودة إردوغان ستؤدي إلى فظائع مشابهة. كما لا يمكننا أن نعرف الوقائع المعاكسة في الحالتين المصرية (لو فشل انقلاب السيسي) والتركية (لو نجح انقلاب أزترك).

كيف لنا إذاً أن نقرّر أيّ الموقفين يعكس "سوء إدراك" وأيّهما يعكس "حسن إدراك" للحظة التاريخية؟

لعلّنا نتبع ما ردّده لنا أساتذة العلاقات الدولية في العقود الماضية: لا تتورّطوا في الانقلابات! الانقلابات سيئة!

ولكن لا بدّ أنّ هؤلاء الأساتذة "العظماء" أو المؤسسين السابقين لهذا النهج كانوا يرون الانقلابات من منظار مختلف كلياً. ففي أيامهم، كانت الانقلابات تجسّد الفرصة التقليدية الرئيسية لإحداث تغيير سياسي فعّال (الرجوع إلى كتاب الأمير لمكيافيلي). ولكن في زمننا المعاصر و"الديمقراطي"، تغيّر الوضع. فعامل الوقت والتوقيت بات أساسياً هنا.

التوقيت عامل فعّال 

التوقيت في السياسة أكثر تعقيداً من الوقت الذي تحدّده عقارب الساعة. فالأخير هو كناية عن عملية غير واعية ومنتظمة وغير قابلة للعكس تتحرّك بوتيرة ثابتة ولا تعتمد على الأحداث التي تتخلّلها بشكل غيابي. فساعة في يوم زفافك توازي ساعة في جنازة صديقك المفضّل. لا تفهم الساعة ولا تدرك مرور الحدث الأول بلمح البصر واستغراق الحدث الثاني سنين طويلة. ولكنّ البشر يدركون الفرق.

بالتالي، يُعتبر التوقيت السياسي بنية اجتماعية شخصية تكون فيها "اللحظة" (التي تحدّد إطار حدث ما) و"الحدث" (الذي يطبع اللحظة) مترابطين وأساسيين لبعضهما. فلا يمكن اعتبار أيّ منهما بشكل مستقلّ عن الآخر.

إنّ تعدّد الأحداث والتواريخ التي تبرز تميّز اللحظة/الحدث يجرّدنا من إجابة صحيحة واحدة لتحديد اللحظة ويعطينا تفسيرات عديدة محتملة للحظة التاريخية والاحتمالات الكامنة فيها ويعكس "حاضراً" متداخلاً مع حاضر آخر أو أكثر من حاضر.

حدّد إطار "الربيع العربي" أحداث 25 يناير 2011. ومن خلال هذه الأحداث، تمّ تحديد "التوقيت" وبناؤه. وتشمل بعض تفسيرات هذه الأحداث لحظة هيجان، ثورة، فوضى، انقلاب (أي أنّ المؤسسة العسكرية هي التي أطاحت بمبارك وحلّت مكانه). ولكنّ مفهوم هذه الأحداث كامتداد للربيع العربي المستمرّ جعل من العنصر الثوري أكثر رجحاناً وحيوية.

كانت الفترة الممتدة بين يونيو وأغسطس أكثر جدلاً. ففي ضوء الثورة السابقة، اعتبر الكثيرون الأحداث "ثورة ثانية" أو "امتداد لثورة يناير". ونظر كثيرون أبعد من "الانقلاب"، ما كان واضحاً أيضاً.

وفي هذا السيناريو، كانت ثلاث فرضيات عن التوقيت صحيحة أيضاً.

أولاً، كانت الفرضية بأنّنا في زمن ثورات. وتُعتبر استمارة الانتساب إلى حركة تمرّد مثلاً حياً عن هذا الوعي الثوروي. وتمحورت جميع أسباب التمرّد التي ذكرتها الحركة حول فشل مرسي أو عدم استعداده لتلبية مطالب ثورة يناير.

وختمت الاستمارة بأنّ "المواطن البسيط يشعر بأنه لم يتحقق أي هدف من أهداف الثورة [...] أعلن أنا الموقع أدناه رغبتي في سحب الثقة من الرئيس محمد مرسي".

لم يكُن هذا التقييم للتطوّر الثوري من دون فائدة. فتمّ التوصل إليه عبر المقارنة مع نماذج ثورات أخرى مثل الثورة الإيرانية أو الثورة الفرنسية. وقد تعلّمنا من الثورة الإيرانية أنّه يمكن منح الحركة الثورية نزعة إسلامية بينما أثبتت الثورة الفرنسية أنّ الثورات تحصل على مراحل متعددة (واعتُبرت ثورة/انقلاب يوليو المرحلة الثانية).

ثانياً، سمح فهم الثورة المصرية انطلاقاً من الثورة الفرنسية بالتوصل إلى فرضية ضمنية أخرى: التقدّم. وساد شعور بالإمكانية: إذا أمكن الإطاحة بالأول، فيمكن الإطاحة بالثاني أيضاً. يصعب تحليل منشأ المفهوم القائل "كلما ازداد عدد الرؤساء الذين نطيح بهم، كلما كان أفضل". ولكنّ وجود هذا المفهوم محتّم ويتّضح في الأنشودة الشهيرة (التي شدّدت عليها مهى عبد الرحمن في كتابها) "وِلسّا"التي تشير بوضوح إلى نهج إطاحات مستمرّ في التقدّم.

ثالثاً، زمن الثورات هو زمن استثنائي. وهذا الشعور بالـ"الاستثنائية" فسّر للّذين أحسوا به مجموعة واسعة من العناصر غير التقليدية والعكسية التي حدّدت لحظة الانقلاب. ومن هذه العناصر مشاركة الشرطة والجيش في تظاهرات، ما يُعتبر مخالفاً لواجباتهم الدستورية وللمنطق المصري (والعالمي؟).

أتذكّر سؤالاً طرحه عليّ أحد أصدقائي في ذلك اليوم: "إذا كانت الشرطة معنا، مَن نحارب إذاً؟"

كان يجب أن يتفاجأ معظم المصريين من سهولة الثورة المزعومة ولكنّهم لم يشعروا بالذهول. فالوضع كان طبيعياً في هذه الأوقات الاستثنائية.

حتى أنّ مجزرة آلاف الناس في ميدان النهضة ورابعة العدوية بعد شهر لم تُمنح انتباهاً كافياً. فالظرف الاستثنائي سمح بتدابير استثنائية. ولكن، وعلى حدّ قول الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن، عندما يصبح الإطار الزمني للاستثنائية القاعدة، لا يعود أي شيء استثنائياً.

مَن يُلام؟ الناس أو التوقيت؟

إنّ خبرتي المحدودة جداً في الشؤون التركية تعيق طموحي لإتمام هذه المقارنة المصرية/التركية. ولكن هل يحتاج المرء إلى درجة عالية من الخبرة ليلاحظ أنّ حسن إدراك لحظة الثورة كان أدقّ في مصر عام 2013 من تركيا في عام 2016؟

هل يحتاج المرء إلى درجة عالية من الاطلاع على التاريخ التركي لفهم كيف أنّ خبرة الأتراك المتكرّرة في الانقلابات جعلت "لحظات الانقلاب" أقلّ استثنائية لهم؟ ألا يجب أن تكون فظائع الانقلاب المصري ناقوس خطر لأي محاولة انقلاب في المنطقة؟ أترك هذه الأسئلة لسيمون والدمان وحازم قنديل وخبراء آخرين في المجال.

Amr Nabil/AP/Press Association Images. All rights reserved.

Amr Nabil/AP/Press Association Images. All rights reserved.أخيراً، ليست القدرة على تمييز اللحظة التاريخية عن غيرها من اللحظات هي التي تفرّق المسار التركي عن المسار المصري وإنّما هي اللحظة التاريخية بحدّ ذاتها والإطار السياسي لما توازيه هذه "اللحظة" في وعي المجتمع. آمل أن تخفّف هذه الحجة من وطأة تبادل الاتهامات المعاكسة للشعب المصري.

ربما لو حصل الانقلاب التركي قبل الانقلاب المصري، لكانت تغيّرت المعادلة. التوقيت، كما الناس، لديه جدوله السياسي الخاصّ. فلنكن عادلين إذاً ونوجّه قسماً من الاتهامات التي تطال الشعب المصري إلى "توقيت" يونيو – أغسطس 2013.

Had enough of ‘alternative facts’? openDemocracy is different Join the conversation: get our weekly email

تعليقات

نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة
Audio available Bookmark Check Language Close Comments Download Facebook Link Email Newsletter Newsletter Play Print Share Twitter Youtube Search Instagram WhatsApp yourData