
Image from “La política en cajas” (Politics in boxes) by Alfons Freire, 2010. Licensed under CC BY-NC 2.0
“فاعلية الرياضيات في سياق العلوم تكمن تحديدًا في قدرة الرياضيات على تصوير الفكرة العلمية، بينما تحتاج السياسة بالتساوي إلى القدرة على تصوير التحليل السياسي والعواقب الخططية لهذا التحليل، فهذه هي علامة الحيوية الإستراتيجية.” الان باديو
في السياسية، وقت وتوقيت العمل السياسي يهم! في ٢٠١٣ مثلًا حينما نزلت المعارضة إلى الشوارع احتجاجًا على سياسات محمد مرسي والإخوان المسلمين المثيرة للجدل بعد عام في الحكم، سُرقت الحركة وهُمشت من قِبل المؤسسة العسكرية. فعوضًا عن مناقشة العقد الاجتماعي عبر سبل ديمقراطية كما نويت الحركة، قامت المؤسسة العسكرية بخلع محمد مرسي بالقوة. توقيت هذه الأحداث أتاح للمؤسسة العسكرية أن تعلن عن ثورة ثانية دَشنت عودتها السياسية إلى الحكم وتركت المعارضة في حالة من الصدمة والغضب والشعور بالفشل.
أثناء الفترة الرئاسية الأولى لعبد الفتاح السيسي ازداد القمع في وجه التظاهرات المعارضة إلى حد واسع ودفع هذا العديد من الناس الذين تحمسوا على الفرص السياسية التي جلبتها ٢٠١١ للتراجع عن العمل السياسي الرسمي بشكل تام، لكن في الشهور الأخيرة ومع اقتراب انتخابات مارس ٢٠١٨ الرئاسية قامت فكرة التصديلحكم السيسي بإيقاظ المعارضة السياسية، فأتت حملة خالد علي الرئاسية لتلعب دورًا رئيسيًا في هذه العملية. فعلى جانب، قامت الحملة بتوطيد الائتلاف القائم بين الأحزاب والحركات السياسية والنشطاء، وعلى الجانب الآخر، أعادت الحملة روح٢٠١١للحركة وأعطتها دَفعةً جديدةً لإعادة التنظيم، وللتعرف على الأشخاص والأهداف السياسية التي ما زالت نشطة، ولتقوية العلاقات، وأهم من كل ذلك لطرح مرة أخرى سؤال “وماذا بعد”؟!
في هذا السياق قد يبدو تراجع خالد علي وانسحابه فشلًا آخر لحركة تعمل على إعادة جمع روحها وطاقتها التي ظهرت في مصر عام ٢٠١١. فالنظام في مصر يتمنى بالطبع أن ينظر الجميع لهذا الانسحاب كفشل، لكن في قراءة أخرى يمكننا أن نعتبر تراجع خالد عليفرصة متجددة للحركة. فقراره يرسم فرصة لإعادة تشكيل إطار العمل السياسي عوضًا عن الدخول في معركة خاسرة في ساحة السياسة الرسمية، حيث تحدد الدولة قوانين اللعبة بشكل حصري: مَن يستطيع الترشح، إلى أي مدى، وبأي عواقب – وكم مرشح وناشط سيتعرض للهجوم، التهديد والاعتقال؟
على قول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو الذي يعتبر نفسه نتاجًا لثورة ١٩٦٨ في فرنسا ومن المفكرين المهتمين على مدار الأعوام بالسياسة الثورية، فالانتتخابات تطرح سؤالًا مهمًا للحركة في مصر، سؤال يتجاوز مسألة المشاركة أو عدم المشاركة. فيقول باديو إن في مواجهة “ضعف أي برنامج تحرري حقيقي داخل السياق الانتخابي” يعتبر التحدي الأكبر للحركة الباحثة عن التغيير السياسي اليوم هي قدرة الحركة على إتخاذ قرار نهايتها، وهذه النهاية تعني النقطة الزمنية لنهاية الحركة، وتعني أيضًا الهدف النهائي للحركة – أي ما هو معنى “النصر” للحركة.
تعتبر الانتخابات الرئاسية المصرية لعام ٢٠١٨ لحظة محورية لطرح سؤالُا: هل انتهى زمن الحركة؟
تجاوزًا لمسألة المشاركة، تعتبر الانتخابات الرئاسية المصرية لعام ٢٠١٨ لحظة محورية لطرح سؤالُا: هل انتهى زمن الحركة؟ هل ستسمح الحركة الثورية في مصر للدولة بتحديد نهاية الحركة– من خلال القمع أو الأحداث السياسية مثل الانتخابات؟ أم هل تستطيع الحركة – التي شُكلت من خلال التهتك الزمني الذي حدث أثناء الـ١٨ يومًا – أن تهشم الزمن المحدد من قِبل الدولة وتصر على تحديد زمنها، وهو الزمن الذي سيُتخذ لإعادة تعريف معنى الحركة وأهدافها وأولوياتها وتحديد إن كانت ستستمر وكيف؟
في صيف عام ٢٠١٧ خاضت مجموعة صغيرة من برلين حوارًا مع آلان باديو حول الاستمرار في العمل السياسي الثوري في مصر اليوم في ضوء كل ما جرى من أحداث منذ ٢٠١١. في الجزء الأول من الحوار المنشور مؤخرًا تحدث باديو عن الشكل الجديد الذي اتخذته الحركة في مصر وصعوبة التنظيم والتجمع حول فكرة ايجابية وقاطعة مقارنةً بالأفكار السلبية مثل “لا لمبارك” أو “لا لمرسي”. في هذا الجزء (الجزء الثاني) يناقش باديو معنى ودلالة الانتخابات كما يناقش أهمية الزمن للحركات التحررية بدايةً بهذا السؤال:
ما هو معنى انتخابات ٢٠١٨ للحركة؟
باديو: من الواضح أن هناك مشكلة خاصة بالانتخابات، فهذه ليست أول مرة تُستخدم فيها الانتخابات لمواجهة اندفاع الحركة بدلًا من خلق، تصحيح، أو تشكيل الحركة. كان هذا الوضع في مايو ١٩٦٨ بفرنسا أيضًا.كانت نهاية الحركة هي الانتخابات تحديدًا. انتخابات أغلبيتها الكبرى تقع خارج الحركة وبشكل ما ضد الحركة، ولهذا هناك مشكلة. لهذا يمكننا أن نطرح طريقة تفكير جديدة حول هذه الأسئلة. بدايةً بهذا السؤال:
المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات؟
باديو: ربما أفضل طريقة لمواجهة هذا السؤال هي التفريق بين عملية تكوين الحركة من جانب، والحديث عن المشاركة أو عدمها في الانتخابات على الجانب الآخر. فخلط الأمرين هو الذي يخلق الصعوبات الكبرى.فبشكل ما تقول الحركة فلننظم حوارات حول المشاركة أو عدمها، فلا نستطيع أن نهرب من حوار خاص بهذا الأمر، وهكذا تختلط الأمور.
ولذلك حول مسألة التنظيم والانتخابات، فالانتخابات لا تطرح تناقضًا بين الدولة والحركة. التناقض يظهر بين خيارين للدولة نفسها: في حالة مصر، الإخوان المسلمين أم الجيش. لكن حتى في دولنا الأكثر سلمية، يعود الأمر في النهاية إلى صدام بين اليمين التقليدي واليسار التقليدي. وهذا غير جيد للحركة لأن الحركة تطورت إلى حد كبير من فكرة تجاوز اليسار التقليدي. في فرنسا، كانت الفكرة هي تجاوز الحزب الشيوعي الذي كان حزبًا قديمًا لا يحمل تصورًا للمستقبل. ولذلك أعتقد أننا نواجه المشكلة نفسها في جميع الحالات، ومصر مثلت تجسيدًا قويًا لهذه المشكلة.
علينا أن نخلق امكانيات مختلفة داخل إطارشكل الحركة الجديد الذي اِبتُكِر في الربيع العربي
لذلك فعلينا أن نخلق امكانيات مختلفة داخل إطارشكل الحركة الجديد الذي اِبتُكِر في الربيع العربي. داخل هذه الحركة علينا أن نطرح زمانية جديدة للسياسة، أي شكلًا جديدًا للزمن. فعلى جانب الحركة هناك زمن الحركة، وهو زمن محدد جدًا، زمن نتاج نفسه، أو زمن نتاج نفسه داخل نطاق الزمن الأوسع. لكننا نعرف أن هذا الزمن لا يعمل كمقياس على مستوى الدولة وقوتها، لأن الدولة تمتلك كل الوقت والحركة لا تمتلك الوقت كله. فالدولة تستطيع لزمن ما أن تقبل وجود الحركة، لكن من وجهة نظر الحركة مسألة الوقت هي مسألة صعبة جدًا لأننا علينا أن نعرف أن في الأخير تنتهي الحركة.
مسألة نهاية الحركة هي مسألة محورية، لأن إن لم تستطع الحركة أن تحدد نهايتها، فالنهاية ستفرض عليها من قِبل عامل خارجي. لكن المسألة ليست مسألة تنظيم بالشكل التقليدي أي بناء حزب ضخم وهكذا، بل هي مسألة القدرة على صنع القرار داخل الحركة والقدرة على صنع القرار حول نهاية الحركة. فعلى هذا النحو:
من يحدد نهاية الحركة؟
باديو: أحيانًا أعتقد أن أفضل شيء للحركة هو أن تحدد بنفسها النهاية، ولا تترك أمرًا مثل الانتخابات – كعملية أتية من الخارج – أن تحدد النهاية. فالفكرة هي أن من أجل الحفاظ على قوة الحركة عليك أيضًا أن تحدد نهاية الحركة، فلا توجد حركة تستطيع أن تستمر إلى الأبد، وهذا شيء نعرفه. وإن لم نحدد نهاية الحركة، شيء آخر سيحدد نهاية الحركة من أجلنا، قد يكون ذلك قمع عنيف، قد يكون الجيش أو الشرطة، ولكن قد يكون أيضًا الانتخابات. وفي هذه الحالة يكون القرار هو نهاية الحركة، لكن لا ينبع القرار من الحركة، بل الدولة هي تحدد هذا الأمر كما هو شائع في كل مكان. بشكل ما، الانتخابات هي شيء ضد الحركة لأنها مسألة خاصة بالدولة. بالنسبة لي، درس مهم يجب أن نتخذه من الحركة في مصر هو تساءل: ما هي تحديدًا الجدلية القائمة بين ما تطرحه الدولة – ليس على مستوى القمع والعنف وهذه الأمور، فهذه مشكلة أخرى، لكن على مستوى تنظيم الانتخابات من جهة – وبين مصير الحركة نفسها وأفكارها الجديدة على الجانب الآخر. ولذلك نعود لمعاضلة أن تكون الحركة لديها شيء يشبه الرؤية.
ما هو مستقبل الحركة نفسها؟
باديو: في الحقيقة، هذا سؤال شيق لأن هناك داخل الحركة شيء شديد النشاط، ولكن هناك أيضًا شيء سلبي، شيء شديد السكون، وهي فكرة الاستمرار، أن تستمر، لكن لماذا ومن أجل ماذا.
تنبع قوة الحركة عن خلق مساحة جديدة ووضع جمعي جديد في مكان ما
بشكل عام، الاستمرار لأنها حالة جيدة، حالة جميلة جدًا، لأنها متعة! كل هذا مقبول وقد يكون ضروري، لكن بالنسبة لي هي مشكلة جديدة جدًا، لأن في الوضع الثوري التقليدي، وفي كل الأوضاع الثورية، تشكلت الحركة حول هدف السيطرة على الحكم. فلذلك كان السؤال: كيف تنظم القوة التي تستطيع أن تسيطر على الحكم. هذا تصور لينيني أو شيء يشبه ذلك، وبناءً عليه فكان علينا أن نمتلك تنظيم شديد القوة، أي تنظيم على نحو عسكري بشكل هرمي وهكذا، وبهذا الشكل نستطيع أن ندخل الدولة. لكن إن لم يكن الهدف هو أننسيطر على الدولة فتصبح قوة الحركة نابعة عن فكرة التوافق حول التنوع بكل أشكاله، التوافق حول التنوع أو شيء على هذا النحو، فتنبع قوة الحركة عن خلق مساحة جديدة ووضع جمعي جديد في مكان ما، وهذا يؤدي إلى مسألة الزمن وهي مسألة جديدة علينا.
إن لم يكن الزمن حاليًا هو زمن التنظيم الهجومي، فما هو الزمن تحديدًا؟
باديو: اليوم هناك شيء يشبه تجاهل مسألة الزمن. في النهاية، الجميع ينتظر ما ستقوم به الدولة، مثلًا: اقتراح الدولة للانتخابات، أو القمع العسكري. لكن هذا الزمن هو زمن ساكن إلى حد كبير. فعبارة “لا لمبارك” لا تمثل عملية خلق لوضع جديد بشكل معتبر، بل هو قول نافي ورمزي. لكن ما هو اقتراحنا الخاص بالزمن؟
الانتظار. نحن مازلنا ننتظر. حتى هنا في فرنسا هناك حالات شبيهة. مثلا: حركة باريس لمواجهة قانون العمل، وهي الحركة التي ظهرت العام الماضي، فواجهتها الدولة على إنها مشكلة. لكن الأزمة الحقيقية هي أن الحركة بأكملها تبخرت مع وصول ماكرون إلى الحكم. كانت الحركة ساكنة، وسكونها كان خاص بمسألة نهايتها، فأتى شيء من الخارج وحدد نهاية الحركة.لذلك إن لم نستطع حل هذه المشكلة سنصبح جزءًا من دورة كبيرة متكررة.
ينشر هذا المقال بالتعاون مع موقع بالأحمر
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة