

فيما العالم بأكمله منهمك بوضع سياسات وخطط تحاول التخفيف من وطأة الوباء الذي أصاب الأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية والصحية العالميّة، تحاول السلطة الحاكمة في لبنان الاستفادة من الأزمة الصحية واستغلال حاجة المواطنين اللّبنانيين لتجيير المجتمع الذي يعاني الفقر والجوع والأوبئة.
لبنان كالعديد من دول المنطقة، ليس جاهزاً لحالة وبائيّة في ظلّ انهيار اقتصاديٍّ كاملٍ وإفلاس سبق الجائحة التي أتت لتسرّع التدهور التدريجي الّذي كان يعيشه البلد. فمنذ 17 تشرين الأوّل/اكتوبر 2019 والشعب اللّبناني مستمرّ في تحرّكاته ضدّ السلطة السياسيّة التي تكوّنت بفعل الحرب الأهليّة اللّبنانيّة وحكمت البلد لأكثر من ثلاثين عاماً بنظام اقتصادي قائم على الاستدانة من الخارج. فكيف لسلطة أودت إلى الإفلاس الاقتصادي الحالي، بإدارة أزمة وباءٍ اجتاحت البلد في خضمّ أزمته الماليّة؟
لجأت هذه السلطة، المكوّنة فعلياً من زعماء طوائف وأحزاب طائفية، إلى الأدوات الّتي تعرف كيفيّة استخدامها في الأزمات: تسكير مناطق وعزلها بحواجزٍ ، توزيع صناديق الإعاشة لشراء ولاءات المواطنين المتضررين من الوباء، وتأمين الخدمات كلّ في منطقته، وذلك في ظلّ غياب شبه تامّ لمؤسسات الدولة.
هل تنجح هذه الأحزاب في استعادة جزء من الثقة والهيمنة الّتي فقدتها في الشّارع اللّبنانيّ منذ 17 تشرين الأوّل/اكتوبر، لتكون الجائحة العالمية مدخل العودة لها؟
Help us uncover the truth about Covid-19
The Covid-19 public inquiry is a historic chance to find out what really happened.
كراتين إعاشة ومطهرات
أعلنت معظم الأحزاب اللّبنانيّة منذ بداية الأزمة عن وضع جهودها الكاملة في مواجهة فيروس كورونا. وبدأت، بمساعدة منصّاتها الإعلاميّة (الالكترونية والمتلفزة)، بالترويج لمشاهد تقديم المساعدات وكراتين الإعاشة والمطّهرات حيث وجد على كلّ من هذه المنتجات ملصق الحزب وشعاره.
بالنسبة لحركة أمل، فقد طبعت شعارها على الكمامات الواقية، بعد ما تمّ احتكارها في السوق ورفع أسعارها بشكلٍ خياليّ، وقررت توزيعها على مناصريها للوقاية. أما الحزب الاشتراكي وحزب القوّات اللّبنانيّة، فهؤلاء اهتمّوا بتوزيع المطهّرات والّصابون وترويج تحضيرها وتوزيعها على صفحات التواصل الاجتماعي، كما تم توزيع الإعانات التي تضمنت مواد غذائيّة أساسيّة من رزّ وعدس وسكّر وغيرها.
وكان من الملفت لجوء عدد من الأحزاب إلى استخدام البدلات الواقية الملونة بلون الحزب نفسه، فكانت بدلات التيّار الوطني الحرّ برتقاليّة تماماً، أما بدلات الأحزاب الأخرى فحملت شعار الحزب نفسه. تستخدم هذه البدلات خلال حملات التعقيم، أو عند توزيع صناديق الإعاشة أي خلال العمل الميداني في المناطق والبلدات.
بعد أسبوعين أو أكثر من استمرار هذه الحملات على الشاشات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، قررت الحكومة تخصيص مبلغ 400 ألف ليرة لبنانيّة لدعم الأسر المحتاجة في هذه الفترة. هذا المبلغ لا يمكنه شراء الحاجات الأساسية، خاصة مع استمرار تزايد الأسعار وفقدان أكثر من 50% من قيمة المعاشات.


مع تسييس الوباء، هل تنجح هذه الأحزاب في استعادة جزء من الثقة والهيمنة الّتي فقدتها منذ 17 تشرين الأوّل/اكتوبر؟
أمّا بالنسبة لتوزيع هذه المساعدات فقد طلب وزير الشؤون الاجتماعيّة رمزي المشرفية من المواطنين تعبئة استمارات لدى المخاتير والبلديات لتتوزّع المساعدات لاحقاً عبر الجيش اللبناني. وبما أنّ معظم البلديات في لبنان تابعة للأحزاب المسيطرة، يتخوّف العديد ممن فقدوا الثقة بهذه السلطة بأن يتمّ توزيع هذه المساعدات على الأسر الموالية للأحزاب على حساب الأكثر حاجة لها، وخصوصاً بعد استخدام البلديات من قبل الأحزاب كماكينات انتخابيّة خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة في أيّار/مايو 2018.
هذا الدعم المفترض وفي ظلّ غياب تامّ لآليّة واضحة لم يأخذ بعين الإعتبار الفئات الأكثر تضرراً من التعبئة العامّة ومن ضمنها سائقي السيرفيسات وعمّال المطاعم مثلا، خصوصاً وأنّ الدولة اللّبنانيّة لم تقم بتعدادٍ سكانيّ للمقيمين منذ عامّ 1932، مما يعني أنّ هذه الدولة لا تعرف التكوين الفعلي لمجتمعها.
وأخيراً هذا المشهد تكلل بتسكير بعض المناطق لفترةٍ قصيرة وذلك للحماية من انتشار الفيروس، الأمر الذي أعاد للناس ذكريات الحرب الأهلية وتقسيم المناطق لفرض سيطرة وحدود. أما عن الدولة اللبنانية، التي من المفترض أنها الآمر الناهي في هكذا سياسيات، فقد قررت أن تعزل نفسها كلياً عن المشهد، كونها لا تملك القدرة أو الأدوات للتعامل مع الواقع، حيث لم يصدر عن الحكومة أي موقف رسمي متعلّق بعمل الأحزاب هذه، إلّا أنّ وزير الداخليّة والبلديّات محمّد فهمي "رحّب بمبادرة الأحزاب" مما يبرز الموقف غير المعلن للحكومة: أي عدم ممانعة هذه الأعمال. هذا المشهد، ولو أنّه اختفى سريعاً إلّا أنّه يعبّر عن واقع الانقسام السياسي الحالي في البلاد.
تبرعات في زمن الإفلاس
لم يخفى على أحد حفلة حملة التبرعات الّتي استمرّت لأيّامٍ عديدة عندما بدأ الوباء بالانتشار في لبنان. بما أنّ القطاع الصحّي في لبنان متدهور نتيجة الأزمة الاقتصاديّة ومع عدم تأمين العدد الكافي من المعدّات الأساسيّة له بسبب انعدام الدولارات، لجأ السياسيون وأحزاب السلطة في لبنان للتبرّع بمعاشاتهم لـ"صندوق مكافحة كورونا". انشغلت وسائل الإعلام بالتركيز على من تبرع بمبلغ أكبر، كما قامت هذه المحطّات بدعم عمل الأحزاب من خلال فتح حسابات للتبّرعات أيضاً وتحويلها إلى برنامج يوميّ مع عدّاداتٍ في أسفل الشّاشة تشير الى المبالغ الّتي وصلت إليها التبرّعات، حتّى وأنّ محطّة MTV اللّبنانيّة نصّبت نفسها دولة حيث اعتبرت أنّها أصبحت "دولة mtv"، وأعلنت في تغريدة أنها حلت مكان الدولة وجمعت 16 مليون دولار لدعم المشافي اللبنانية.
وفيما منع قرار التعبئة العامّة عدد كبير من اللّبنانيين من تحصيل أدنى حاجاتهم وأجورهم، كونهم يعتمدون على الأجر اليومي فقط، يرسل الصندوق الخاصّ لمكافحة كورونا رسائل نصيّة على الهاتف لعامة الشعب طالباً التبرّعات من أموال لا أحد يملكها، إلا القلة القليلة.
يضاف إلى المشهد مبادرة جمعيّة المصارف لتأمين أجهزة طبية واستشفائيّة لمعالجة المصابين من الوباء بقيمة تناهز 6 ملايين دولار. وقد تأسست جمعية المصارف عامّ 1959 بهدف تحسين التعاون بين المصارف والدفاع عن القطاع المصرفي بالإضافة لرسم صورة إيجابيّة للمصارف لدى الرأي العامّ، إلا أنها أصبحت اليوم جزء أساسي من النظام الاقتصادي في لبنان وصانعة لقراراته.
المصارف أقفلت أبوابها بحجّة الوباء بالرّغم من عدم موافقة وزير المال غازي وزني في بادئ الأمر. لكن الوزير عاد وخضع للواقع الّذي فرضته الجمعيّة التي تستخدم أي فرصة متاحة أمامها للاقفال لإخفاء الإفلاس إذ أن معظم ودائع المواطنين اختفت ولكن السلطة غير قادرة على الإقرار بذلك. يقابل ذلك عدم القدرة على تحويل الأموال إلى اللّبنانيين في الخارج مع عدم قدرة المواطنين على سحب أموالهم من المصارف.ففيما، اللّبنانيين عاجزين عن سحب ودائعهم بالدولار،ها هي الجمعيّة تتبرّع بمعدّات بقيمة 6 ملايين دولار. كما تجدر الإشارة الى أنّه منذ بداية عام 2019 حتى اللحظة خرج ما لا يقل عن 15 مليار دولار من النظام المصرفي، بحسب لجنة الرقابة على المصارف.
تسييس الاستشفاء
في ظلّ غياب التمويل بشكلٍ كبير عن المستشفيات الحكوميّة وعدم جهوزيتها لتأمين أقلّ الاحتياجات، قررت المستشفيات الخاصّة التريّث في "التحضير" لاستقبال مرضى الكورونا ورفض البعض منها استقبال أي مريض. ويبقى الحمل موجّه نحو المستشفيات الحكوميّة الغير جاهزة لحالة وباء في ظلّ إفلاس الدولة، مقابل عجز الدولة عن فرض قراراتها على القطاع الخاصّ. في إحدى المقابلات التلفزيونيّة مع وزير الصحّة حمد حسن، قال الأخير أنّ المستشفيات الخاصّة ستستقبل جميع حالات الكورونا بتغطية من وزارة الصحّة، فجاوبه نقيب المستشفيات الخاصّة سليمان هارون عبر اتّصالٍ هاتفي وقال "منشوف" أي سوف نرى. هذا الوباء برهن عن عجز تامّ عن تحمّل المسؤوليّة السياسيّة ومسؤوليّة حماية المجتمع. وفي آخر تصريح له قال هارون أن مجمل المستشفيات الخاصة والحكومية تحتوي على معدّل 500 سرير جاهز للدخول على خط مواجهة الجائحة، لافتاً إلى أن عدداً كبيراً من المستشفيات مهدد بالإغلاق نتيجة الإفلاس.
وبالطبع استغلت بعض الأحزاب هذا الوضع فوراً، فقدم النائب تيمور جنبلاط، ابن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، "جهاز أوكسيجين" لمستشفى سبلين. أمّا النّائب الياس بو صعب، عضو تكتّل "لبنان القوي"، فقد قرر استئجار المستشفى اللّبناني الكندي لمدّة سنة وتجهيزه لاستقبال المرضى، وفي عكّار قدّم النّائب في تيّار المستقبل هادي حبيش 10 أسرّة للمستشفى الحكومي في عكّار.
الحجر المنزلي والتشدد الأمني يجري من دون خطة لحفظ حقوق المتضررين
مقابل المستشفيات الخاصّة هناك مراكز الحجر الصحّي. منذ فترةٍ أعلنت عضو كتلة "المستقبل" النائب بهيّة الحريري أنّها لن تقبل بتحويل المستشفى التركي في صيدا إلى مركز للحجر الصحي في حين أنّ مستشفى صيدا الحكومي غير جاهز أيضاً لاستقبال المرضى. المشكلة في هذا النّوع من القرارات هي أنّها عادة تعود للحكومة وليس لزعماء الطوائف والأحزاب. وبما أنّ الحكومة ليس لديها حريّة القرار فعلياً وعاجزة عن فرض القرارات الّتي تصدر عنها، تسارعت الأحزاب لتأمين وتجهيز فنادق ومراكز للحجر على "نفقتها الخاصّة".
تقوم حركة أمل على سبيل المثال بتجهيز 25 مركزاً للحجر الصحي والاحتياطي والاستباقي لمواجهة احتمال تطوّر الوباء، أمّا حزب الله فقد أعلن عن خطّة كاملة متكاملة لمواجهة الفيروس: 1500 طبيب و3000 ممرض ومسعف و5000 كادر خدماتي صحي و15000 كادر خدماتي ميداني، كما قدّم تيمور جنبلاط 10 ملايين ليرة لبنانيّة لمراكز الحجر في إقليم الخروب. صحيح انّ هذه الخدمات غير مقدّمة بشكلٍ مباشر إلى مناصري هذه الأحزاب لكنّها وبكلّ وضوح مقدّمة مناطقياً. وبما أنّ المناطق اللّبنانيّة مقسمة إلى طوائف وموالين للأحزاب الطائفيّة بفعل الحرب الأهليّة، فهو تعزيز للانقسام في الشارع اللبناني.
تفريغ الشّارع وخاتمة الاعتصام
نهايةً، تكللت هذه الخطوات بعمل أخير لهذه الحكومة وهو إزالة خيم المعتصمين الفارغة من ساحتي الشهداء ورياض الصلح وسط مدينة بيروت، ومن ساحة النّور في مدينة طرابلس. كانت حجة وزير الدّاخليّة أنّ إزالة هذه الخيم هي لحماية المعتصمين من فيروس كورونا والحدّ من انتشاره. علماً أن هذه الخيم لم تشكّل أي نوع من التهديد، ولكن الوباء كان الحجة الأمثل للتخلص من آثار الاحتجاجات والسيطرة على الشارع. الأمر الذي تحقق بفرض التعبئة العامّة والحجر الصحّي على المواطنين وبالتالي تفريغ الشارع.
الحجر المنزلي اليوم والتشدد الأمني يجري دون خطة لحفظ حقوق المتضررين وهم شريحة واسعة من هذا المجتمع، ولا قدرة على إبقاء سيطرة كهذه لوقتٍ طويل، خاصة مع تدهور الحالة المادية للمواطنين الذين سينفجرون بوجه السلطة.
أكثر من ثلاثين عاماً من الضرائب لم تستطع تأمين التغطية الصحيّة الشّاملة أي أدنى الحقوق للمواطنين، مع ذلك، كلّ فحوصات الPCR خارج مستشفى بيروت الحكومي مكلفة وشريحة كبيرة من المجتمع غير قادرة على القيام بها، ومن لديهم القدرة على القيام بها، فأموالهم محجوزة في المصارف الّتي أقفلت أبوابها، فيأتي الحزب بصورة المخلّص ليدفع بدل القيام بهذا الفحص لمناصريه.
ما يحصل اليوم يمكن فهمه كمتاجرة بخوف النّاس وقلقهم للسيطرة عليهم وعلى الشّارع وعلى النظام الاقتصادي المتهالك. الحكومة أعلنت إفلاس الدولة عندما قررت التخلّف عن دفع سندات اليوروبوندز، وقدّ تمّ تمرير هذا الموضوع سريعاً تحت وطأة وباء كورونا الّذي استغلّ مرّة أخرى لغضّ نظر المواطنين عن هذا الإفلاس.
لقراءة المزيد
تلقَّ بريدنا الأسبوعي
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة