
Ivan Romano/Zuma Press/PA Images. All rights reserved.أصغر من مطار وأكبر من سوق، هكذا يبدو محيط محطة سيارات الأجرة بالرباط، حركة دائمة للمشاة بلا توقف؛ بين متنقلين ومتجولين وموظفين في شوارعها، وحدهم العائدون لمنازلهم يتوقفون انتظاراً لسيارة أجرة تقلهم لوجهاتهم لإحدى أحياء الرباط أو سلا المجاورة وغيرها. وفي مشهد دائم على جنباتها، عشرات الباعة المتجولون جالسين ومتوقفين يعرضون بضاعتهم كل يوم على عتبات محيط هذه المحطة وعلى امتداد الشارع المقابل لها، أغلبهم من المهاجرين الأفارقه.
تبدأ عادة رحلة هؤلاء من إحدى بلدان غرب إفريقيا لإحدى دول شمال إفريقيا. وللوصول لأوروبا تلزمهم محطة انتظار لإستكمال عشرات الكيلومترات البحرية المتبقية الفاصلة بين سواحل المغرب العربي وأوروبا.
أمادو، المهاجر المالي الثلاثينيّ الذي قبل بالتوقف قليلاً في المحطة التي يعمل بها ليُقاسمني بعضاً من رحلة هجرته، يقول أن هجرته تأخرت بسبب تشديد خفر السواحل للحراسة، فضلاً عن احتمالية غرق المراكب، ما دفعه للتوقف عن استكمالها، والانتقال للعاصمة الرباط للاستقرار. ويبدو أن حكايته تُلخص مسار كثيرين اندمجوا بإحدى المدن المغربية وانطلقوا لبناء حياة جديدة بعيداً عن الحلم الأوروبي.
في المساء، يصحبني أمادو معه لمنزله على مشارف مدينة الرباط، تستقبله عائلته الصغيرة. ابنته التي في الثامنة من عمرها تجري لمعانقة أباها. أدخل البيت، نُستقبل بحرارة من قبل زوجته المغربية التي ترحّب بي بكل ود، ولتقول لي قبل طرح الكثير من الأسئلة أن الحب الذي بينها وبين أمادو لا يعترف بالأجناس والألوان ويتخطى كل الحواجز.
وسط منزله الذي تتقاطع فيه الأزياء والطعام الإفريقي مع التفاصيل المغربية لترسم صورة من الانسجام والحب البسيط، يبني أمادو أحلامه من جديد بعيداً عن الحلم الأوروبي.
يبدو في حديثه أنه ما كان ليصدق أن المغرب ستكون محطته النهائية، فقد كان يرسُم أُفق مستقبله بباريس ليلتحق بإحدى أبناء عمومته هناك، ورفاقه الذين سبقوه. يحدثني أمادو عن أسباب التفكير بالهجرة بالقول أن الفرار من جحيم بلاده الذي تُمزقه أسلحة الكلاشينكوف هو السبب الأوحد.
الحلم الأوروبي مغرٍ للكثيرين، من ذا الذي يصدق أن تعوضه إحدى بلدان الاستقبال المتوسطية الإفريقية
ويتحدث أمادو عن رفاقاً ابتلعتهم أمواج المتوسط، الأمر الذي يتكرر كل يوم للمهاجرين الحالمين بالفردوس الأوروبي. يؤكد تقرير منظمة الهجرة الدولية أن عدد المهاجرين واللاجئين الذين وصلوا للقارة الأوروبية عن طريق البحر، مطلع هذه السنة إلى غاية 18 يوليو/تموز، يزيد عن 51 ألف و782 شخص، %36 عن طريق الجهة الغربية للأبيض المتوسط. وفي المقابل، تتناقل الأخبار عن آلاف الغرقى غير المحظوظين، قُدّر عددهم هذه السنة بحوالي 1500 غريق، وفق نفس التقرير، يتحولون لمجرد خبر هامشي في نشرات الأخبار. وفي أحسن الأحوال، يتم إنقاذهم لتتقاذفهم قوانين الهجرة الجائرة، فما تعجز الأمواج عن فعله، تتكفل القوانين بذلك.
ويتجدّد اليوم النقاش الأوروبي-الأوروبي على أعلى مستوى حول استقبال المهاجرين السريين، بعد رفض إيطالي لاستقبال سفينة أكواريوس التي تقل أكثر من 600 مهاجر أنقذتهم السفينة التابعة لمنظمة أس أو أس ميديتراني "SOS Mediterranee" من الغرق، ما اضطر السفينة للإبحار في المياه الدولية أياماً إلى حين استقبالها بإسبانيا. وخلّفت الحادثة تلاسناً دبلوماسياً بين إيطاليا وفرنسا، وتجدداً للنقاش حول سياسة أوروبية موحدة حول الهجرة. وتتواصل الاجتماعات والمشاورات حولها ببروكسيل، التي أفضت بعد مُشاورات موسعة لإقتراح إنشاء مراكز للاستقبال خارج أوروبا في بلدان شمال إفريقيا تحت مسمى "منصات الإنزال"، الأمر الذي رفضته غالبية الدول المعنية.
وبين هذا وذاك، يتراوح ملف الهجرة أوروبياً، بين مؤيدٍ لأنسنته بمطالبة لتسوية وضع المهاجرين، وبين دعوات واضحة لوقف وطرد هؤلاء المهاجرين واللاجئين، تُؤكده دعوات غير رسمية متشددة يمثلها اليمين الأوروبي لعدم استقبالهم وترحيل هؤلاء تلطيفاً لسردية "اغرقوهم". أما على المستوى الرسمي، فيظل واقع الهجرة المتوسطيّة مؤرقاً لزعمائها، وتتسرب للصحافة خلافات اجتماعات الغرف المغلقة، بسبب السياسات المتباينة لمقاربة هذا الملف، وتكشف هذه الاجتماعات الانقسام الحاد بين دوله في سياسة الهجرة التي يحكُمها منطق التناقضات؛ فبين إصرار على منطق التضييق الأمني وبين الحاجة الاقتصادية لسواعد هؤلاء المهاجرين.
الحلم الأوروبي مغرٍ للكثيرين، من ذا الذي يصدق أن تعوضه إحدى بلدان الاستقبال المتوسطية الإفريقية؟ ومتى كانت مدينة الرباط مرضية لهم أمام باريس ومدريد؟ أسئلة وجهناها لأمادو، الذي قال أنه في ختام رحلته عبر الصحراء وصل لمدينة طنجة، وكانت خياراته محدودة؛ إما الانضمام لمقتحمي مدينتي سبتة ومليلة في ذلك الوقت، أو انتظار فرصة للإبحار من طنجة أو إحدى المدن المجاورة لها صوب الشواطئ الإسبانية.
كانت الكيلومترات الأخيرة البحرية الحاسمة تُغري بالانتقال لكن بلا ضمانات للنجاح، وعلى هذه المحطات تتقاطع المصائر في رحلة العبور الطويلة من الجنوب للشمال، وفي انتظار اللحظة الحاسمة (جو صاف وتراجع مستوى تشديد الحراسة ...)، تتحرك القوارب البلاستيكية أو الخشبية المكدسة بعشرات الحالمين بلا أمان في رحلات مفاجئة وغير معلن عنها للشمال. وحين كان أمادو يفاوض أحد وسطاء شبكات التهجير لاستكمال رحلة الأميال الأخيرة، أقنعته وجوه غيّبها البحر بالعدول عن مجازفة الإبحار، وفضّل الاستقرار وتسوية وضعيته بالمغرب.
أن يتحول بديل "الفردوس الأوروبي" إلى بلد إفريقي متوسطي، ليس من رغبة أحد من المهاجرين
أن يتحول بديل "الفردوس الأوروبي" إلى بلد إفريقي متوسطي، ليس من رغبة أحد من المهاجرين، وبالنسبة لأمثال أمادو، كانت بلدان ضفاف المتوسط الإفريقية مجرد وقفة أخيرة في إنتظار قوارب التهجير من شواطئها للمحطة النهائية. كثيرة هي الأحداث التي تركها أمادو ورائه، ببلده وبالطريق الطويلة لطنجة ليبقى في المغرب، وبشجاعة يردد "المغرب مستقبلي ومستقبل عائلتي"، وحلمي سيُرسم هنا.
قد تكون الدوافع شخصية للاستقرار النهائي للمهاجرين أمثال أمادو بالمغرب، غير أن عوامل موضوعية تساهم في هذا الاختيار؛ منها الاهتمام المغربي بالبعد الإفريقي ومحاولته لخلق تعايش وتوفير مستلزمات البقاء للمهاجرين، ما دفع البعض لتجريب "الحلم المغربي". جديرٌ ذكره أيضاً، أن المغرب قام بمبادرة رسمية لتسوية أوضاع المهاجرين، تفعيلاً للإستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء لإدماجهم وتسوية وضعيتهم، وتدبير أفضل لتدفقات الهجرة، مكّنت الآلاف من تسوية وضعهم القانونية والاندماج والانخراط بحياة جديدة.
Read more
Get our weekly email
Comments
We encourage anyone to comment, please consult the oD commenting guidelines if you have any questions.