Home

اليسار العربي بين الحرية والتسلط

لازالت لفكرة اليسار راهنية وأهمية. لكن عن أي يسار نتحدث؟

عبد اللطيف الحماموشي
11.10.2018
PA-38358178.jpg

A large poster in the city of Rastan shows Bashar al-Assad and Vladimir Putin as allies. Picture by Friedemann Kohler/DPA/PA Images. All rights reserved. كانت ومازالت الفكرة اليسارية تُعبر عن وجهة نظر نبيلة تهدف إلى خلاص الإنسانية من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، ولعل راهنيتها لازالت قائمة، بالنظر إلى المشاكل التي يتخبط بها العالم العربي، من تفشي الاستبداد واللامساواة، في ظل هيمنة اقتصاد هجين ذو طابع نيو-ليبرالي مُتحَكّم فيه من طرف دوائر الحكم والمتنفذين.

وكجل أقطار العالم، نمت في المنطقة العربية حركات يسارية (قومية، اشتراكية، ماركسية) منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي. أخذت هذه الحركات على عاتقها مسؤولية تحرير البلاد من المستعمر. بعد الاستقلال صعد البعض منها إلى الحُكم، وكَوّن "جمهوريات" سلطوية سيطرت عليها صورة الزعيم الوطني الثوري. فيما استمر الجزء الآخر – وهو الأغلبية – في النضال ضد الأنظمة القائمة حينها.

لا ينكر أحد دور اليسار العربي والعالمي في النضال من أجل الكرامة والانعتاق والعدالة الاجتماعية. إلا أن ذلك لا يمنع من نقد التوجهات السلطوية داخل التيار الاشتراكي بكل اتجاهاته. ولا يمنع كذلك من طرح الأسئلة الآتية: هل يسارنا العربي مؤمن بالحرية؟ وما هو "شكل" الديمقراطية التي يناضل من أجلها؟ هل هي الديمقراطية التعددية التي تضم جل الفرقاء من ليبراليين وإسلاميين معتدلين وقوميين واشتراكيين وشيوعيين...؟ أم "ديمقراطية" على المقاس يهيمن عليها حزب وحيد أو مجموعة من الأحزاب بمعزل عن الهيئات الممثلة في الساحة السياسية.

ومن أجل عدم السقوط في التعميم، لابد من توضيح مهم: ليست كل المجموعات اليسارية تتبنى المنطق السلطوي الرافض للتعددية والمضاد لفكرة الحرية. لكن نادراً ما يكون ذلك، خصوصا وأن الاتجاه التحكمي (Authoritarianism) توغل بقوة داخل الحركة الاشتراكية العربية، وذلك عائد لعوامل عدة ليست موضوع هذا المقال.

الحرية والديمقراطية التعددية، "بدعة" ليبرالية

ترى بعض الفصائل اليسارية في الحريات المدنية والسياسية التي تقضي بالقبول بالديمقراطية التعددية مجرد "بدعة" اختلقها الليبراليون قصد السيطرة والتحكم في اللعبة السياسية. وبالتالي فهي عائق أمام "سلطة الشعب" الحقيقية التي تتجاوز الهيئات المُمثلة. إذ أن "الحريات البورجوازية" لا تعني في شيء الطبقات الشعبية المتضررة من السياسات المتوحشة التي تنهجها الرأسمالية، ولذلك لا فائدة منها. يعتقد هذا الاتجاه أن الديمقراطية الاقتصادية المتجلية في اقتصاد اشتراكي قائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتحقيق التقدم والتنمية للشعب، وأن الديمقراطية التعددية المتعارف عليها ما هي إلا مرحلة من مراحل التطور، تنتهي حينما تستولي "قوى الشعب المنتجة" على السلطة. وبذلك فإنها تكتيك وليست استراتيجية.
وفي واقع الأمر، لا يمكن فصل الديمقراطية الاقتصادية عن الديمقراطية السياسية، لأن التجربة أثبتت أنه من المستحيل تحقيق التنمية والحرية في نفس الآن من دونهما معا (الديمقراطية الاقتصادية والسياسية). فما فائدة العدالة الاجتماعية في ظل جو يتسم بالقمع والاضطهاد وهيمنة مكون واحد ووحيد على مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية؟ وما الجدوى كذلك من ديمقراطية سياسية تعددية في غياب العدالة الاجتماعية واتساع الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع الواحد؟

هذه الإشكالية لا تنحصر لدى بعض أطراف اليسار فقط، بل تمتد كذلك إلى بعض التيارات الإسلامية التي تُلخص الديمقراطية في صناديق الاقتراع. فالأخيرة ترى بأن أغلب شعوب المنطقة أصبحت تميل مؤخرا للتيار الديني، وبذلك فهي تضمن الفوز في الانتخابات والهيمنة على المشهد السياسي. وبالتالي السير نحو "أسلمة" الدولة ومؤسساتها بواسطة الديمقراطية التمثيلية.  وكذلك الحال بالنسبة لبعض المنتسبين إلى التيار الليبرالي الذين يرون أن الشعب لم ينضج بعد للديمقراطية، وبذلك يجب المحافظة على الأنظمة القائمة لمواجهة "جهل" الشعب. وهذا طبعا ضد الفكرة الليبرالية القائمة على حكم الشعب وحريته.

اليسار "الديمقراطي" يدافع عن الأسد وستالين

ليس غريباً أن تجد بعض الأحزاب الاشتراكية تُقر في مقرراتها التنظيمية، وفي وثائق مؤتمراتها بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الآن تدافع عن نظام مجرم ودموي كنظام بشار الأسد المتنكر لكل المبادئ الإنسانية.كما نجد أن الهيئات نفسها تمجد الزعيم السوفييتي ستالين الذي قضى خلال حكمه ملايين المواطنين السوفييت. والأمر نفسه يتكرر بالنسبة لماو تسي تونغ زعيم الثورة الصينية.

تدعم هذه الهيئات التي تحدثنا عنها نظام بشار الأسد لعدة أسباب نذكر البعض منها: السبب الأول يتمحور حول كون الأخير (الأسد) يقود حكومة "علمانية اشتراكية" مناهضة للإسلاميين ومحافظة على "تقدمية" الدولة. أما السبب الثاني فهو "ممانعة" نظام الأسد ومناهضته للإمبريالية الغربية. وكأن روسيا المتحالفة مع نظام الأسد ليست بإمبريالية! السبب الثالث يتمحور حول نظرة وتقييم هذه الحركات للثورة السورية. فالأخيرة بالنسبة لهم ماهي إلا مؤامرة استخباراتية، وصنيعة أورو-أمريكية ترمي إلى تفتيت وحدة الشعب السوري المقاوم.

تُذكرنا هذه التبريرات المستعملة من بعض اليساريين الموالين لنظام الأسد بما كان ولازال يتحجج به بعض اليساريين والليبراليين[1] المؤيدين للانقلاب العسكري في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي في مطلع سنة 2013. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أيد الكثير منهم مذبحة رابعة العدوية وطبل لصعود حكم العسكر. وذلك بداعي محاربة الإخوان المسلمين، متناسين أن الطابع الإنساني يتجاوز كل ما هو فكري/أيديولوجي.

"قاهر النازية"، "حوّل روسيا من دولة فلاحية متخلفة إلى أحد أقوى الدول الصناعية"، "حافظ على النهج الماركسي اللينيني الصحيح"... هذه بعض العبارات التي تُردد دوماً على لسان أتباع اليسار الستاليني دفاعا عن أيديولوجيتهم وزعيمهم جوزيف ستالين (1878- 1953) المعروف بنزعته الإجرامية والتسلطية. اتسمت فترة حكم الأخير بقمع شديد راح ضحيته ملايين من المواطنين السوفيات[2]، ولم يستثن من ذلك رفاقه الثوريين الفاعلين في الثورة البلشفية التي تغنى بها (ستالين) وادعى الدفاع عن مثلها العليا. يتساءل المرء هنا: كيف لهؤلاء اليساريين "الديمقراطيين" أن يدمجوا بين أمرين متناقضين؟ وهما مناهضة أنظمة الحكم الاستبدادية في بلدانهم، والنضال ضدها من أجل إحقاق "الديمقراطية"، وفي نفس الآن الإيمان بأيديولوجية شمولية تنبع من فكرة استبدادية خالصة. هل يعني ذلك أننا سنستبدل استبداداً متخلفاً باستبداد "ثوري"؟

كما قيل في البداية لازالت لفكرة اليسار راهنية وأهمية. لكن عن أي يسار نتحدث؟ هل عن يسار ستالين الذي اغتال قيمة الحرية، وحارب كل المفكرين الثوريين الذين نادوا بتغليب الحرية قيمة إنسانية عليا على كل القيم الاشتراكية الأخرى مهما كان نبلها، أم عن يسارٍ تحرري يبني نفسه من تحت، من حياة الناس العاديين ومن همومهم ومشاكلهم، لا من فوق، من أحزاب وبنى دولتية تفرض نفسها على الناس، يسار لا يستند إلى حمولات فكرية وأيديولوجية جامدة، تُقدم المصلحة الايديولوجية على القيم الإنسانية؟

[1] نَذكر هنا على سبيل المثال موقف المفكرة النسوية-اليسارية نوال السعداوي في حكم السيسي. ففي آخر مقابلة لها مع قناة البي بي سي، اعتبرت أن "الاعلام الغربي لا ينقل الحقيقة عن مصر، وإنما ينقل ما يريد عنها" مضيفة أن هذا الإعلام "لديه شيء انتقامي غريب جدا من السياسة المصرية، ومن الرئيس عبد الفتاح السيسي" معربة عن إعجابها بسياسات الأخير، وذلك جواباً على سؤال المذيعة التي تساءلت عن وضعية الحريات في مصر، وعن سبب عدم انتقاد نوال السعداوي للسيسي.

[2] بحسب بعض السجلات الرسمية التي نُشرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فإن أكثر من سبعة مائة ألف حالة إعدام نفذت في عهد ستالين. ونحو أكثر من مليون ونصف قضوا نحبهم في معتقلات الغولاغ. أضف إلى ذلك ضحايا المجاعات ( مجاعة أوكرانيا 1932-1933 كمثال)، إلخ... مع أن عدد كبير من المؤرخين شككوا في دقة السجلات، وقدروا عدد ضحايا سياسات ستالين بعشرات الملايين.

Had enough of ‘alternative facts’? openDemocracy is different Join the conversation: get our weekly email

تعليقات

نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة
Audio available Bookmark Check Language Close Comments Download Facebook Link Email Newsletter Newsletter Play Print Share Twitter Youtube Search Instagram WhatsApp yourData