A Syrian vendor walk in front of destroyed building was hit by a reported air strike by Russian air force in the district of Jisr al-Shughur, in the Idlib province, on September 9, 2018.Photo by Ugur Can/DHA/ABACAPRESS.COM
|
DHA/ABACA/ABACA/PA Images
Share this
URL copied to clipboard
لم يلبث حفل توزيع جوائز الأكاديمية الأميريكّية "الأوسكار" أن ينتهي، حتّى ثار جدل كبير بين السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي حول مرشّحهم السوري في الحدث السينمائي العالمي أي فيلم "عن الآباء والأبناء" للمخرج طلال ديركي عن فئة الفيلم الوثائقي، والذي يبدو أنّ خسارة فرصة فوزه بالجائزة لم تكن أكبر مصائبه، فقد ترافق الترشيح للأوسكار مع تسريب الفيلم للمشاهدة على الإنترنت، ليتمكنّ العديد من السوريين من مشاهدة الفيلم، والمشاركة في الجدل المثار حوله، الأمر الذي لم يحدث مع وثائقيات سوريّة أخرى، ربّما "حماها" حصر عرضها في المهرجانات العالميّة من أيّ تعرّض للرأي العام السوري.
في فيلمه الوثائقي الطويل الثاني عقب الانتفاضة السوريّة، ينتقل مخرج "العودة إلى حمص" إلى إحدى قرى ريف إدلب التي تخضع لسيطرة قوى مسلحة مختلفة، بينها هيئة تحرير الشام (تنظيم القاعدة) وحركة أحرار الشام الإسلاميّة، وتشكيلات مسلّحة أخرى خاضعة للمعارضة السوريّة، ليقيم فترة في بيت "أبي أسامة" أحد عناصر تنظيم القاعدة في نسخته السوريّة، والمعتقل الإسلامي السابق عند النظام السوري الذي تشتهر سجونه بكونها "مفرخة" للجهاديين وبخاصة سجن صيدنايا العسكري سيء السمعة، والذي كان النظام قد أطلق سراح الكثير من مساجينه الإسلاميين مع بداية الاحتجاجات السلمية في البلاد.
ولقبول إقامته في منزل عائلة أبي أسامة، كان مخرج الفيلم قد قدّم نفسه كمخرج متحمّس للأفكار الجهاديّة، وأنّه يريد أن يصوّر فيلماً عن حياة الجهاد وتفاصيلها، وليس كما سيحدث في الفيلم لاحقاً، أي عقب تصوير المادّة ومغادرة المخرج لسوريا، حيث سيتحوّل الفيلم وثيقة لإدانة الجهاديين، أو على الأقل هذا ما أراده فريق العمل.
The Covid-19 public inquiry is a historic chance to find out what really happened.
تقاليد الالتباس
طوال ساعة ونصف لا يقدّم "عن الآباء والأبناء" الكثير من المفاجآت، إن كان على مستوى الشكل الفنّي، أو المضمون، فباستثناء تصوير"جرأة" أبي أسامة في تعبيره عن أفكاره السلفّية الجهادّية، وقسوته في فرض التدريبات العسكرية على أطفاله الذكور، لا يحمل الفيلم أيّ جديد مختلف عن الأفلام الدعائيّة للتنظيمات الإسلامية الجهاديّة.
المأزق الأساسي في الفيلم ينبع من العلاقة الملتبسة بين مخرج الفيلم وشخصياته، فالكذبة التي مارسها مخرج الفيلم على العائلة التي أقام في بيتها مدّة من الزمن، كانت العامل الأساسي في رسم خطاب شخصياته المختلفة، بمعنى الجنوح نحو الخطابيّة الدعائية الفارغة من قبل أبي أسامة التي تمدح الجهاد طوال الوقت، دون تمكّن الفيلم من النفاذ إلى أيّة أبعاد أخرى في تلك الشخصيّة.
هذه العلاقة الملتبسة بين المخرج وشخصياته في "عن الآباء والأبناء" ليست أمراً مستحدثاً في السينما الوثائقيّة السوريّة، بل على العكس تبدو أحد سماتها الأساسيّة، على الأقل في الأفلام الوثائقيّة السوريّة الأكثر شهرة سواء قبل الانتفاضة، أم بعدها.
فالأمر يعود لفيلم "طوفان في بلاد البعث" للراحل عمر أميرالاي في العام 2003 والذي تحايل فيه الراحل أيضاً على شخصيات من قرية "جعيفنية الماشي" لإنجاز وثيقة عن الصورة القاسية لحياة السوريين تحت سطوة البعث السوري، فادّعى أميرالاي تصوير فيلم دعائي عن إنجازات الدولة وجودتها، بينما كان في الواقع يصوّر فيلماً عن تخلّف هذه الدولة وتداعيها، وبالأخص على مستوى الخطاب الأيديولوجي.
فكما في فيلم أميرالاي تتلاشى في فيلم ديركي شخصيّات السوريّين كأفراد، ويتحولون لماكينات أيديولوجيّة تردّد خطابات سياسيّة مكررة، لا لأنّهم يقومون بذلك طوال الوقت في حياتهم "الطبيعيّة" بل لأنّ شرط التصوير القائم بينهم وبين صنّاع الفيلم قائم على الالتباس، أي طلب المخرج خطاباً سياسيّاً معينّاً بينما هو ينجز فيلماً عن خطاب سياسيّ معاكس تماماً، ففي حالة أميرالاي التضاد هو بين البعث وانتقاد البعث، وفي حالة ديركي بين مديح الجهاد وانتقاد التطرّف.
بالعودة إلى الفيلم تبرز أيضاً إشكاليّة تعليق المخرج في الشريط الصوتي للفيلم على حياة عائلة أبي أسامة في إدلب وكأنّها في كلّ أبعادها حالة جهادية إكزوتيكيّة الطابع، وغريبة عن تصوّر المخرج عن "سوريا المختلفة التي تركها ورائه" قبل رحيله للاستقرار في ألمانيا.
لكنّ المفارقة هي أنّ المخرج ذاته كان قد أنجز فيلم "العودة إلى حمص" نهاية العام 2013 حول حياة حارس كرة القدم والمنشد الثوري عبد الباسط الساروت، والذي تحوّل إلى العمل المسلّح مع تطوّر أحداث الثورة السوريّة متبنيّأً أيضاً فكرة الجهاد بمعناه الإسلامي ضدّ النظام السوري، بالإضافة إلى ظهور مقاتلين سلفيّين وأناشيد جهادية سلفية بشكل واضح في الفيلم، الأمر الذي صوّر بشعرية وتفهّم عاليين في "العودة إلى حمص" أما في فيلمه الجديد فيتفاجئ المخرج بما كان هو نفسه قد صوّره وقدّمه بإيجابيّة عالية في فيلمه السابق، في نوع من الاستشراق الذاتي نحو المجتمع السوري، لا يفهم منه سوى الرغبة في بيع رواية معينة مسبقة عن حياة ملايين السوريّ المقيمين في محافظة إدلب، وهو الأمر الذي كان قد أثار مؤخراً غضب عديد من السوريّن الذين تمكنّوا من مشاهدة الفيلم بعد تسريبه.
لا حقوق لأطفال إدلب
بالعودة إلى الجوانب الفنيّة لـ"عن الآباء والأبناء" تبرز إشكالية تتعلق بعجز الفيلم عن تقديم أيّ صورة مركّبة للشخصّيات التي صوّرها على الرغم من إقامة فريق العمل معها، تلك الصورة المركّبة التي تنجح الوثائقيّات والأعمال الفنيّة الجيّدة في نقلها، والّتي تقدّم من جهة وثيقة عن حياة البشر (حتّى "الأشرار" منهم) في ظرف تاريخي معيّن، ولكن تقدّم في الوقت ذاته عمقاً إنسانيّاً في شخصياتهم قد يؤدّي إلى فهم دوافعهم، وفهم أنفسنا كبشر بشكل أفضل.
ولكن الفيلم الذي بين أيدينا خسر أيضاً مثل تلك الفرصة على الرغم من الجهد المبذول لإنجازه، وذلك عندما اقتصر أسلوبه الفنّي على طرح أسئلة سياسيّة على الأب السلفي لانتزاع أجوبة أيديولوجيّة متطرّفة، أو طرح أسئلة على الأطفال لانتزاع أجوبة قد تبدو مثيرة للاهتمام، في أسلوب أقرب للفيديوهات العائلية المنزلية التي نصورها جميعاً لتثبيت لحظات من طفولة أبنائنا، وليس لاستخدامها بطبيعة الحال مادّة لتحقيق "سكوب" إعلامي على شكل فيلم وثائقي.
بالحديث عن الأطفال تبرز أحد المشاكل الرئيسيّة في الفيلم، وإن لم تكن مرتبطة بالمستوى الفنّي كسابقاتها، فمن المعلوم أنّ تصوير الأطفال يتطلّب من جهة تصريحاً مكتوباً من أهاليهم، ومن جهة ثانية استخداماً أخلاقيّاً للمادّة المصوّرة، وذلك لتأمين الغطاء القانوني للفيلم قبل أي اعتبارات إنسانيّة أخرى.
أمّا أسلوب التصوير التحايلي الذي اتبعه "عن الآباء والأبناء" فيعني أنّ فريق الفيلم لا يملك تصريحاً لتصوير الأطفال، أو على الأقل تصويرهم بهذه الطريقة الّتي تهدّد مستقبلهم بصورة صارخة، وبالتالي فإنّ منتجي الفيلم "يستقوون" بقصد أو بغير قصد على الأطفال السوريين في إدلب، والعاجزين في الوقت الحالي بسبب الحصار عن رفع دعاوى قانونيّة للمطالبة بتعويض عن الأذى الحتمي الذي سينابهم بسبب الفيلم.
ولتوضيح الفكرة السابقة بشكل أفضل دعونا نفكّر بـ"أسامة" أكثر أطفال أبيه كاريزميّة والذي استخدم الفيلم العديد من صوره كجزء من الهوية البصريّة الدعائيّة للفيلم، ماذا لو قرّر أسامة اليوم التمرّد على نمط الحياة التي فرضت عليه من قبل أبيه؟ ماذا لو هرب من إدلب إلى تركيّا كما يفعل السوريون كلّ يوم؟ هل ستكون فرص أسامة في اللجوء والتعليم والحياة الكريمة بعد مثل هذا الفيلم مساوية لمصير غيره من الأطفال السوريين المغلوب على أمرهم في إدلب؟
السؤال السابق قانوني وأخلاقي بطبيعة الحال، وليس ذا بعد فنّي، ذلك أنّ بنية الفيلم الفنّية الضعيفة لا تقدّم مادّة دسمة للتحليل الفنّي، ليبقى الفيلم محمولاً على فكرة حصريّة المادّة التي يقدّمها لا جودتها الفنّية، أمّا مدى إنصاف هذه المادّة بحقّ أطفال الفيلم كأفراد سوريّين، فيبدو خيبة أمل أخرى تضمن مستقبلاً مسحوب الأمل للأطفال، ومادّة جديدة لتغذية مظلوميّية أبيهم وأقرانه من المتشدّدين.
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى openDemocracy تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب ن كان لديك أسئلة